
بقلم/ منى عبد الفتاح
“كاتبة وصحافية سودانية”
أثارت صورة جندي إسرائيلي يرتدي شارة مطبوعة بخريطة “إسرائيل الكبرى” جدلاً واسعاً عند نشرها في “ميدل إيست مونيتور” العام الماضي. الخريطة، التي تظهر إسرائيل ممتدة من النيل إلى الفرات، لم تكن مجرد رسم رمزي، بل استدعاء مباشر لأسطورة صهيونية قديمة جرى استحضارها مراراً عبر قرن من الزمن.
وقد علقت البروفيسور إيكاترينا ماتوي، وهي مديرة البرنامج في معهد الشرق الأوسط للدراسات السياسية والاقتصادية، بأن ما أثار الغضب ليس وجود الفكرة في حد ذاتها، فهي متجذرة في خطاب الحركة الصهيونية منذ تيودور هرتزل، بل ظهورها العلني في فضاء التواصل الاجتماعي، إذ تحولت إلى صورة محسوسة تعكس طموحاً توسعياً يتجاوز حدود إسرائيل الراهنة.
ولم يكن هذا التصور غائباً عن الخطاب السياسي الإسرائيلي المعاصر. ففي مطلع عام 2024 صرح السياسي الإسرائيلي آفي ليبكين قائلاً “في نهاية المطاف ستمتد حدودنا من لبنان إلى الصحراء الكبرى، ومن المتوسط إلى الفرات، وصولاً إلى مكة والمدينة وجبل سيناء”، هذه الرؤية، بقدر ما تبدو جذرية، تستند إلى خيوط فكرية وسياسية ممتدة منذ عقود، أبرزها وثيقة عوديد ينون، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون التي صيغت عام 1982 في مناخ إقليمي متوتر عقب اتفاقية كامب ديفيد، والثورة الإيرانية، والحرب العراقية – الإيرانية.
خطة ينون لم تكتفِ بتأكيد مركزية إسرائيل، بل صاغت تصوراً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على أسس طائفية وعرقية، بما يضعف الدول المحيطة ويجعلها كيانات مفككة يسهل التحكم بمساراتها، وقد ربطت الخطة بين أمن إسرائيل واستدامة تفكك العالم العربي، في امتداد مباشر لفكر هرتزل ورموز الصهيونية الأوائل.
هذا الطرح وجد صدى في قراءات ناقدة مثل ما خطه أمين عام مؤسسة برتراند راسل للسلام رالف شونمان في كتابه “التاريخ الخفي للصهيونية”، إذ وصفه بـ”استراتيجية الغزو” القائمة على التفتيت والتقسيم، مثل حل لبنان وإضعاف سوريا وضرب إيران والعراق وإفراغ فلسطين من سكانها. وعلى رغم الجدل حول تحيز شونمان، فإن ما عرضه يعكس بوضوح أن الرؤية لم تكن معزولة، بل ارتبطت بتيارات سياسية متباينة داخل إسرائيل، من حزب “العمل” إلى قادة مثل أرئيل شارون. ويظهر ذلك في “لاءات” حزب العمل الأربع عام 1984 “لا للدولة الفلسطينية، ولا للمفاوضات مع منظمة التحرير، ولا لحدود 1967، ولا لإزالة المستوطنات”.
وسيطرتهم على البنية السياسية والاقتصادية لـ”اليشوف” الجديد، هنا أعادت الصهيونية تعريف الهوية اليهودية على نحو متعارض مع البعد العربي، فاعتبرت اليهود الشرقيين عبئاً ثقافياً، حتى وهي توظف أعدادهم لتعزيز التوازن الديموغرافي، ومن المفارقات أن الحركة الصهيونية استفادت من موجات اضطهاد اليهود في مصر والعراق واليمن والمغرب لتغذية مشروعها القومي، مقدمة هذه الهجرات كدليل على الحاجة الملحة لـ”الوطن القومي”.
كما أن الوعد الأولي الذي صور للفلسطينيين بأنه يحمل ملامح رفاهية وشراكة في إطار الدولة الجديدة، سرعان ما تلاشى أمام سياسات التهميش والإقصاء المنهجي، إذ تحول الفلسطينيون من شركاء محتملين إلى “عقبة” ينبغي إزاحتها من المشهد، وتكمن أهمية تتبع هذه التحولات في فهم ديناميكيات “إسرائيل الكبرى”، فهي ليست مجرد مشروع توسعي جغرافي، بل منظومة فكرية واستراتيجية متكاملة، نسجت خيوطها من الهجرة، والديموغرافيا والاقتصاد والخطاب الإيديولوجي، وصولاً إلى الممارسات العملية التي جعلت من التوسع المستمر أحد أعمدة الدولة.
ولدت الحركة الصهيونية الحديثة في قلب أوروبا، كاستجابة مباشرة لسياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة عاشها اليهود في الغرب، فقد تزامن صعودها مع اشتداد موجات معاداة السامية في أوروبا الوسطى والشرقية، خصوصاً في روسيا القيصرية وفرنسا النابليونية الجديدة، ولم يكن لهذه العداوات جذور في فلسطين أو في المنطقة العربية، لكنها أوجدت بيئة دفعت بعض النخب اليهودية إلى البحث عن حل جذري خارج القارة الأوروبية.
طرح هرتزل في كتابه الذي عد بمثابة البيان التأسيسي للصهيونية السياسية، تصوراً براغماتياً لحل “المسألة اليهودية” يقوم على إقامة دولة قومية يهودية، توفر لليهود الأمن والسيادة على “جزء من سطح الأرض”، لم يحدد هرتزل بداية موقعاً قاطعاً لهذه الدولة، بل أشار إلى فلسطين أو الأرجنتين، لكنه أدرك سريعاً القيمة الرمزية والسياسية لفلسطين بوصفها الأرض الأكثر قابلية لجمع الحشد الدولي حول المشروع.
جاء انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 ليحول فكرة هرتزل إلى حركة سياسية منظمة تعتمد الهجرة المنظمة والاستيطان الزراعي كأدوات مركزية، وفي عام 1891 كتب الزعيم الصهيوني آحاد هعام أن العرب “يفهمون جيداً ما نفعله وما نهدف إليه”، وفي عام 1901 شكلت المنظمة الصهيونية العالمية شركة، وهي “كيرين كايميث” (الصندوق القومي اليهودي)، لشراء الأراضي للمستوطنين اليهود، ووفقاً لميثاقها، فإن الصندوق يشتري الأراضي في “فلسطين وسوريا وأجزاء أخرى من تركيا في آسيا وشبه جزيرة سيناء”.
وكان هدف الصندوق هو “استرداد أرض فلسطين باعتبارها ملكية غير قابلة للتصرف للشعب اليهودي”، ووصف مدير الصندوق أبراهام غرانوفسكي “استرداد الأرض” بأنه “العملية الأكثر حيوية في إقامة فلسطين اليهودية” أو”الوطن القومي”، مع تأكيد أن الأراضي المستحوذ عليها تبقى “وقفاً أبدياً لليهود”، تزرع وتدار حصراً بأياد يهودية.
السلام، فيما كشفت الوقائع عن مسار مغاير، تجسد في بناء مستوطنات، وفرض قوانين عسكرية، وتغيير ديموغرافي متدرج. وقد أدى الإعلام والدبلوماسية دوراً محورياً في هذا “الإخفاء المرحلي”، فبينما تتعهد الحكومات الإسرائيلية الالتزام بحلول تفاوضية، تستمر سياسات التوسع على الأرض، مدعومة بخطاب مزدوج، خطاب خارجي يوحي بالاعتدال، وخطاب داخلي يستند إلى سرديات دينية وقومية عن “أرض إسرائيل الكبرى”.
“لا يصدقه إلا من يصدقه”، بعيداً من أي حجج أخلاقية أو كونية.
الأحداث الراهنة في غزة ولبنان أعادت هذا الخطاب إلى الواجهة. فبينما تبرر الحكومة الإسرائيلية حملاتها العسكرية على أنها دفاع ضد “الإرهاب”، يتحدث وزراء اليمين المتطرف، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأفيغدور ليبرمان وعميحاي إلياهو، بلغة صريحة عن “تشجيع الفلسطينيين على الرحيل”، وإعادة بناء المستوطنات في غزة، بل والتفكير في “خيارات قصوى” تصل حد الإبادة، ففي مؤتمر “الاستعداد لتسوية غزة” في أكتوبر 2024، دعا بن غفير علناً إلى طرد السكان، بينما وصفت ناشطات صهيونيات مثل دانييلا فايس الفلسطينيين بأنهم “فقدوا حقهم في العيش” في غزة، معلنة أن 700 عائلة مستوطنة جاهزة للانتقال فور الإجلاء.
أيديولوجية الاستيطان
كان الانتصار العسكري لإسرائيل في حرب يونيو (حزيران) 1967 هو اللحظة التي فتحت أمام الخيال السياسي والديني على السواء أبواب يهودا والسامرة (الاسمين العبريين للضفة الغربية)، وقلب “أرض إسرائيل التوراتية”، أو ما يوصف بـ”مهد الأمة”، وفي تلك الأجواء، غنت نعومي شيمر أنشودتها الشهيرة “يروشالايم شيل زهاف” (القدس الذهبية)، فمنحت لقب “السيدة الأولى للأغنية والشعر الإسرائيلي”، إذ أصبحت أغنيتها التي كتبتها عام 1967 نشيداً ثانياً غير رسمي بعد فوز إسرائيل في حرب الأيام الستة في ذلك العام وضم القدس.
