
بقلم/ الطيب الصاوي الطيب ابو عمر الجبلابي
(محامي وباحث في التراث الشعبي)
عندما يفقد الشخص عزيزا عليه ينتابه شعور مختلط بين الحزن على الفقد والرغبة في تعداد محاسن المفقود واهلنا بقولوا الموت نقاد (يعني بخطف الخيار ) مع اليقين التام ان كل نفس ذائقة الموت و(كل من عليها فان)، وكل ابن أنثى وان طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول أنا الموتُ الذي آت إليكم ليس لهارب منى نجاةُ.. ومنذ قديم الزمان كان هنالك الرثاء من باب اذكروا محاسن موتاكم وكذلك كانت النائحة التي تبكي وتثكل وتعدد محاسن الفقيد والخصال والصفات والشيم الجميلة من كرم وشهامة وعفة وعلم ومرؤة وفراسة واقدام وعرف العرب شعر الرثاء وأصبح غرض من أغراض الشعر منها الفخر والغزل والرثاء ويقال ان تماضر بنت عمر الخنساء بكت على اخاها صخر إلى أن جف مورد الدموع في العين ونضب واصبحت تبكي دما ورغم ذلك عاتبت عينها بقولها اعينيا جودا ولا تجمدا الا تبكيان على صخر الندى وان صخر لتهتدى الهداة به كأنه علم في رأسه نار.. وكذلك الشاعر أحمد شوقي قال في رثاء مصطفى كامل اتاتورك المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والداني… المجد والشرف الرفيع صحيفة جعلت له الأخلاق كالعنوان.. دقات قلب المرء قالة له ان الحياة دقائق وثوان.. ارفع لنفسك بعد موتك فالذكرُ للانسان عمر ثان.. وصفه بالأخلاق الحميدة النبيلة وان فقده فقد أمة… والشاعر قال قد يموت كثيرا فلا تحسهمو فكأن من هوان الخطب ما وجدوا …
وقال اخر فقدناك حتى لا اصطبار لنا فقد مات قبلك قوما فما فقدوا او كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا ..
أخت زعيم الشكرية حمد ود دكين قالت في رثائه( عيني انقطع وكايا ) صيغة مبالغة عن غزارة الدموع التي ذرفتها عينها كما يتدفق الماء عندما ينقطع (الوكّاي) او العصام هو حبل صغير من السعف يربط به خشم القربة ليعصم الماء من التدفق..
جدنا محمود ود زايد عليه رحمة الله ومغفرته كان رجل حاضر البديهة وفاكهة مجتمع اينما حط الرحال وكان يجيد الالقاء ويضبط إيقاع الحديث في قالب قصصي قشيب ذكر لنا في إحدى محافله عن تاجر متجول يرجع نسبه إلى قبيلة الجعلين كان يتجول بين فرقان البادية حتى طاب له المقام في إحدى قرى البادية وتزوج منهم وأصبح لهم صهرا وانجب ولد وارد الله أن يتوفى هذا الطفل يافعا وأخذت نساء البادية تبكي الطفل وتعدد أمجاد خيلانه من جهة امه ويقدحن في أمجاد الجعليين وعيَرنَّهم بالتجارة (الليلة لأهل امك ركابين العاتي الليلة لأهل امك الما فرشوا بالخراتي ) و”الخراتي” جمع “خرتاية” وهي وعاء يخاط من الدمورية وزن عشرة وتحمل فيها قديما البضائع من بهارات وغيرها وهنا الجعلي رغم الحزن على فقد فلذة كبده الا انه شعر بقصد النائحات من نساء البادية وتقليلهن من شأن قبيلة الجعليين فأخذ يسأل ويبحث عن امرأة جعلية تفش غليلة اوصفوا له امرأة عجوز في آخر القرية وهي من قبيلة الجعليين فأخذ رطل بن حبشي لزوم الكيف واجادة الوصف والثكلي وبعد أن “تكيفت” العجوز “تعقطت” وربطت راسها وحضرت إلى مكان العزاء وأخذت تبكي وتعدد مناقب الجعليين( الليلة لأهل ابوك اهل محفل الديوان الليلة لأهل ابوك الما برعوا بالحملان الليلة لأهل ابوك ) هنا شيخ العرب حس ان هذه العجوز بخبرتها في الردحي والوصف قد تجرهم إلى ما لايحمد عقباه فطلب من النساء الكف عن البكاء واهلنا بقولوا النار كان ما لاقها حريق ما بتقيف رحم الله جدنا ود زايد وغفر له ورزقه الفردوس الأعلى من الجنة والرثاء.. هو عبارة عن ذكر محاسن المتوفي بطريقة او بأخرى كذلك بنونة بنت المك ترثي اخاها عمارة (فرتاق حافلن خيلن بجنو دريس …كسار سلسلن غصبا بلا تحنيس حي على من قلبو باعد ابليس.. تبكيك القبائل الباوقة لي شندي يا سيفي السنين داخراك لعمري حي على من قلبو باعد ابليس ) وكذلك رائعة ود الأمين( غرارة العبوس دار الكمال ونقاص دوبا حليل ابوى للعلوم دراس تبكيك الجوامع الانبنت دانقيل لقراية العلم وكلمة التهليل.. دوبا حليل ابوى للعلوم دراس ) من الكمال ونقاص يحضرنا قول الشاعر فلا ينعمنا بطيب العيش انسان ولكل بناء اذا ما تم نقصان وكذلك رائعة خلف الله حمد عليه رحمة الله في الشيخ حسب الرسول ود بدر عليه رحمة الله ( سيدي سيد الاراكه كان داكا كان داكا وين مثل ابوي بحر الظمايا وينو الجاتوا العمايا وينو الايدو عطايا وينو البعصر جنايا وين مثل ابوي النحاسو بندل، الجدري الحبس البازنقر ) وكذلك من التراث ( حليل موسى يا حليل موسى حليل موسى للرجال خوسه ما بيأكل ملاح اخدر وما بشرب الخمر بسكر طلع ظيطو شال بنات بربر …يوم جان الحصان مجلوب وفوق ضهرو السرج مقلوب… ابكنو يا بنات حي ووب تبكيك أمنه فوق القيف دماعه زي بحور الصيف.. الليله ما بشوف حلة والحربة فينا تتجلى كان متنا في سبيل الله وكان عشنا للرجال مَلَّه ) وطبعا إلى يومنا هذا هنالك نساء اشتهرن بالوصف واجادة تعداد محاسن المتوفي ( أهلنا يقولوا فلانه تبكي على العدو كنية عن اجادتها الوصف مع الردحي والثكلي )يا مقنع الكشافات ويا قشاش دمع الوليات ويا دخري الحوبات ويا مطمورة غلانا وكيلنا ويا توب غطانا.. مطمورتك بتكيل للخاله والعمات الراسي التقيل القول عليك حقو يبسم للصديق ما بجيهو بي شقو للجار والصديق شخصيتو مهتمه أحمد عشاء البيتات الخاله والعمة واذا كانت المتوفية امرأة توصف بالتاية والنار الدفاية ودهب البراتي ودهب بني شنقول ما بتجيب غلط الجار وما بتقول ده شن قال وعندما رثاء الشاعر عبد الرحمن صدقي زوجته قال ( زوجتي صنوي وما لي غيرها صنو علمته همها همي فلا تطعم الا ما طعمته همنا الدرس وما تفهمه منه فهمته.. نظمت بالعطف والتدبير عيشي ونظمته.. احرام ان سعدنا ام خبالا ما زعمته.. برهة انتبه الدهر وعفى ما رسمته.. كل ما اعرف كان لي في اخريات العمر بيتا عدمته )هنالك اعلام في الكرم والجود والشهامة والمرؤة والعلم والحكمة والشجاعه يتم تخليدهم بالرثاء وكثرت المرثيات في عهد الجاهلية وبعد الإسلام والى يومنا هذا من باب اذكروا محاسن موتاكم وقديما كانت في السودان موروث يعرف بالمناحة يدق فيها الدنقر (يتم كفي القرع على طش به ماء ويتم الطرق على القرع يحدث أصوات حزينة ) ويصحب ذلك الوصف وذكر مناقب المتوفي في شكل كلمات رثائية واختفت هذه العادة مع تقدم الفهم الديني وتفقه الناس دينيا نعم هنالك أركان واعمدة ومروق وشعب كبار فقدهم فقد أمة بأثرها وما التأبين الا شكل من أشكال تخليد ذكرى المتوفي وذكرى محاسنه ودوره في المجتمع يا دمعه ليه ذارفة الفراق مكتوب عليهو بس نصبر والله صبر أيوب وكم من عزيز رحل في غيابنا من الشيب كمان وشبابنا من يوم الحزن ما نابنا نبكي ويا حليل اصحابنا اللهم ربي ارحم جميع امواتنا واموات المسلمين والى ان القاكم في موروث اخر اذا كان في العمر بقية اترككم في رعاية الله وحفظه