
بقلم/المستشار الطيب مضوي شيقوق
تُعدّ العدالة الانتقالية نهجًا قانونيًا وسياسيًا شاملًا يُطبّق في الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية إثر نزاعات مسلحة أو أنظمة قمعية. تهدف العدالة الانتقالية إلى معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وفق آليات قانونية ومؤسسية متعددة. وتشمل هذه الآليات المحاكمات الجنائية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة، ولجان الحقيقة والمصالحة للكشف عن وقائع الانتهاكات وتوثيقها، وبرامج التعويضات التي تضمن جبر الضرر المادي والمعنوي للضحايا، إلى جانب الإصلاحات المؤسسية لضمان عدم تكرار هذه الجرائم في المستقبل. وتهدف هاتان الآليتان إلى تحقيق العدالة والمساءلة، مع إرساء أسس المصالحة الوطنية وتعزيز سيادة القانون، بما يحقق استقرار الدولة ويؤسس لمرحلة جديدة قائمة على التعايش السلمي واحترام الحقوق الأساسية.
أما العدالة التصالحية، فهي ترتكز على مبادئ التسوية الودية بين الأطراف المتنازعة، حيث تهدف إلى ترميم العلاقات الاجتماعية التي تضررت بسبب النزاعات أو الجرائم، وتعتمد على آليات غير تقليدية كالحوار المجتمعي، الوساطة، والتعويضات غير العقابية. تُطبق العدالة التصالحية بشكل رئيسي في المجتمعات التي تمتلك هياكل اجتماعية قوية تؤمن بأهمية إعادة دمج الأفراد بدلًا من الاقتصاص منهم. ومن أبرز نماذجها تجربة نيوزيلندا، حيث تمكّن نظام العدالة التصالحية من تحقيق إصلاحات فعالة في المجتمع، خاصة فيما يتعلق بالسكان الأصليين (الماوري) من خلال تعزيز آليات المصالحة المحلية والتسويات الجماعية.
في السودان، تُعتبر الإدارة الأهلية من أقدم الهياكل الاجتماعية التي أثبتت فعاليتها في حل النزاعات والتوفيق بين الجماعات المتصارعة. وقد لعبت الزعامات القبلية والمجتمعية دورًا أساسيًا في احتواء الأزمات وتحقيق التوازن الاجتماعي، مستندةً إلى أعراف وتقاليد متجذرة في المجتمع. وعلى الرغم من التطورات القانونية الحديثة، ظلّت الإدارة الأهلية تحتفظ بمكانتها كوسيط رئيسي في النزاعات القبلية والسياسية، خاصة في المناطق الريفية والنائية التي تفتقر إلى الهياكل القضائية الفاعلة.
تتميز الإدارة الأهلية في السودان بقدرتها على الوصول المباشر إلى أطراف النزاع، وهو ما يجعلها الأقدر على تهيئة بيئة ملائمة لتطبيق العدالة الانتقالية والتصالحية. فهي تعتمد على آليات تقليدية مثل “الجودية”، التي تُعنى بإيجاد حلول وسط بين المتخاصمين، مع ضمان تعويض الضحايا وفق الأعراف المجتمعية السائدة. وقد نجحت هذه الآلية في مناطق مثل دارفور وكردفان وأغلب مناطق وسط السودان، حيث تم التوصل إلى اتفاقات صلح بين القبائل المتنازعة، ما ساهم في تخفيف حدة الصراعات وتقليل الخسائر البشرية والمادية.
لا شك أن تحقيق العدالة الانتقالية في السودان يتطلب نمطًا خاصًا يأخذ في الاعتبار البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع السوداني. فبينما تعتمد النماذج العالمية على المؤسسات القضائية الرسمية، فإن نجاح هذه العملية في السودان مرهون بدمج الإدارة الأهلية في آليات العدالة الانتقالية، بحيث تكون الجسر الذي يربط بين العدالة الرسمية والعدالة العرفية. ومن خلال هذا النهج، يمكن تحقيق مصالحة حقيقية ومستدامة تضمن حقوق الضحايا، وفي الوقت نفسه، تعزز التماسك الاجتماعي وتمنع تجدد النزاعات.
إن تجربة رواندا في العدالة الانتقالية تقدّم نموذجًا يمكن الاستفادة منه، حيث تم إنشاء محاكم “غاتشاشا” التقليدية لمعالجة قضايا الإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994. وقد أتاحت هذه المحاكم الفرصة للمجتمع المحلي للمشاركة في تحقيق العدالة، مما عزز من عملية المصالحة الوطنية وقلل من التوترات الداخلية. ويمكن للسودان الاستفادة من هذا النموذج عبر تمكين الإدارة الأهلية من لعب دور محوري في تطبيق العدالة، من خلال لجان مجتمعية تُسهم في جبر الضرر، ومحاسبة الجناة وفق آليات تضمن عدم تكرار الانتهاكات.
التحدي الأكبر الذي يواجه السودان في هذه المرحلة هو إعادة بناء الثقة بين مكوناته المختلفة، وهو ما يتطلب استراتيجية متكاملة تشمل الإصلاحات القانونية، وتعزيز سيادة القانون، وفي الوقت ذاته، تفعيل دور الإدارة الأهلية لتكون جزءًا أصيلًا من الحل. ومن خلال إشراك هذه المؤسسة التقليدية في عمليات المساءلة والمصالحة، يمكن تحقيق عدالة انتقالية ذات طابع محلي ينسجم مع الواقع السوداني، ويُسهم في تحقيق استقرار دائم قائم على الإنصاف والتعايش السلمي.
ختامًا، يمكن القول إن الإدارة الأهلية ليست فقط آلية لحل النزاعات، بل هي جزء أساسي من منظومة العدالة التي يمكن أن تسهم في بناء سودان أكثر استقرارًا وعدالة. فبدمجها ضمن منظومة العدالة الانتقالية والتصالحية، يمكن تحقيق مقاربة فاعلة تُوازن بين المساءلة والمصالحة، وتؤسس لمرحلة جديدة من السلام المجتمعي والتنمية المستدامة.
الطيب مضوي شيقوق
المحامي والمستشار القانوني
رئيس مجلس شوري قبائل رفاعة الشرق