
بقلم/ الطيب مضوي شيقوق
( خبيرفي قوانين أسواق المال- محامي ومستشار قانوني )
عندما تضع الحرب أوزارها، لا تترك خلفها فقط الدمار والأنقاض، بل تترك أيضًا سؤالًا ملحًّا: من أين نبدأ؟ في الدول التي عانت من النزاعات، كانت البداية دومًا من الاقتصاد، لأنه المحرك الأول لبقية المؤسسات. وفي هذا السياق، تبرز سوق الأوراق المالية كإحدى أهم الأدوات الوطنية لإعادة الإعمار وتحقيق النهوض الاقتصادي.
فالبورصة، بمنصتها الشفافة وقواعدها الراسخة، تتيح حشد المدخرات واستقطاب رؤوس الأموال وتحويلها إلى مشاريع إنتاجية وخدمية حقيقية. إنها الوعاء الذي تلتقي فيه طموحات المواطن المستثمر مع خطط الدولة في التنمية، وهو ما يمكن أن يشكل نقطة التقاء بين القطاعين العام والخاص في مرحلة ما بعد الحرب.
وفي هذا الإطار، فإن سوق الخرطوم للأوراق المالية يُمكن أن يلعب دورًا محوريًا في إطار إستراتيجية الدولة للإصلاح الاقتصادي، فالبورصة ليست فقط أداة للتمويل، بل منصة لإشراك الجمهور في التنمية وتوزيع الثروة الوطنية بعدالة.
لقد أصبحت أسواق رأس المال، في العصر الحديث، حجر الرحى في دعم التنمية الاقتصادية، بل منصة رئيسة يتم الاعتماد عليها في خلق شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص. ومن خلال سوق رأس المال، يمكن توفير التمويل اللازم وطويل الأجل لتنفيذ مشاريع تنموية واستثمارية ضخمة لا يستطيع مستثمر فرد أو مجموعة صغيرة تمويلها بمفردهم.
كما أن سوق الأوراق المالية، من خلال الدعوة للاكتتاب العام، تسهم في تحريك المدخرات الوطنية واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، وهو ما يوفّر تمويلاً قليل الكلفة ويضمن فرصًا استثمارية ذات عوائد مجزية. هذا الدور لا يقتصر على التمويل فقط، بل يتعداه إلى تعزيز الكفاءة الاقتصادية، وتحقيق التوزيع العادل للثروات، ومكافحة التضخم، وخلق وظائف جديدة، ودفع عجلة التنمية المستدامة.
وفي مرحلة إعادة الإعمار، يمكن أن يكون للبورصة دور مباشر في تمويل مشاريع البنية التحتية من خلال إصدار السندات والصكوك الحكومية، وتمويل شركات البناء والطاقة والإنتاج الزراعي والصناعي، الأمر الذي لا توفره الأدوات التقليدية وحدها.
كما أن نجاح السوق الثانوية (سوق التداول) يعزز من ثقة المستثمرين، ويضفي السيولة على الأوراق المالية، ويشجع على الاكتتاب في السوق الأولية، مما يفتح الباب لتأسيس شركات مساهمة عامة جديدة، تكون قادرة على خلق فرص العمل وتحقيق قيمة مضافة.
ومن هنا، فإن إعادة هيكلة سوق الخرطوم للأوراق المالية في مرحلة ما بعد الحرب، وتطوير بنيتها التقنية والتشريعية، يمثل فرصة تاريخية لتحقيق تحول نوعي في دور البورصة كقاطرة للإصلاح الاقتصادي، في عهد يُفترض أن يكون عنوانه: الشفافية، الحوكمة، والعدالة الاجتماعية.
ختامًا
إذا كانت الحرب قد مزّقت النسيج الوطني، فإن الاقتصاد هو الخيط الذي يعيد ترميمه. وإذا كانت البورصة مرآة للاقتصاد، فإنها يمكن أن تكون أيضًا منصّة للنهوض… وسوق الخرطوم، إذا ما أُحسن تفعيله، يمكن أن يكون في طليعة المؤسسات التي تعيد بناء ما دمرته الحرب، لا بالحجارة وحدها، بل بالثقة والعقل والمال النظيف.