
بقلم/ المستشار القانوني الطيب مضوي شيقوق
التملق، ذلك الداء الاجتماعي الذي لطالما أرّق الفلاسفة والمفكرين ورجال السياسة، ظل متجذرًا في المجتمعات البشرية منذ الأزل، حيث أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن “المدح الزائد والتزلف هو من طبيعة النفس البشرية حين تضعف أمام القوة والسلطان”، وهو ما يؤكده ميكافيلي في كتابه “الأمير” حين وصف كيف يسعى بعض الأفراد إلى نيل الحظوة عند الحكام عبر التملق، لا عبر الكفاءة والاستحقاق.
إن ظاهرة التملق ليست وليدة العصر، بل شهدتها الأمم عبر العصور، من مجالس السلاطين والملوك إلى دوائر السلطة الحديثة. فقد أشار أرسطو إلى خطورة “الإطراء الزائف” على الحاكم، محذرًا من أن محاطته بالمتملقين ستؤدي به إلى قرارات كارثية. أما في الفقه الإسلامي، فقد ورد عن عمر بن الخطاب قوله: “رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي”، في تأكيد على أهمية الصدق في النصح بدلاً من التزلف.
هناك عوامل متعددة تدفع الأفراد إلى التملق، منها الخوف من السلطة، حيث يلجأ الضعفاء إلى التزلف لضمان الأمان، كما ذكر الفيلسوف هوبز في نظريته عن “العقد الاجتماعي”. كما أن تحقيق المصالح الشخصية دافع آخر، إذ يرى البعض أن الطريق إلى النجاح يمر عبر مجاملة المتنفذين. ضعف القيم الأخلاقية يمثل عاملاً أساسيًا، حيث أشار أفلاطون إلى أن “المدينة الفاضلة لا تقوم إلا على الصدق والعدل، لا على الرياء والتملق”. يضاف إلى ذلك طبيعة النظم الاستبدادية، حيث تنتشر هذه الظاهرة في المجتمعات التي تفتقر إلى حرية التعبير والنقد.
يعد المجتمع السوداني نموذجًا يعكس تفشي ظاهرة التملق في مختلف المستويات، حيث تظهر هذه السلوكيات في المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء. فالتقرب من أصحاب النفوذ أصبح وسيلة للترقي الوظيفي والحصول على الامتيازات، دون اعتبار للكفاءة أو الجدارة. وقد أثرت هذه الظاهرة على مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، حيث يتم تضخيم إنجازات المسؤولين وتجاهل إخفاقاتهم، مما يعيق النقد البناء ويحد من فرص الإصلاح الحقيقي. كما انتشر التملق في المجال الثقافي والإعلامي، حيث يتم تلميع الشخصيات العامة بدلاً من مساءلتها، الأمر الذي يؤدي إلى غياب الموضوعية وضعف مؤسسات الرقابة والمحاسبة.
رغم أن التملق قد يبدو أحيانًا وسيلة لتحقيق المكاسب، إلا أن له عواقب وخيمة، منها إفساد بيئة العمل حيث يتم تمكين غير الأكفاء على حساب المبدعين، وتشويه الحقيقة لأن المتملقين يصنعون أوهامًا من النجاحات الزائفة. كما يؤدي إلى إضعاف روح النقد والتصحيح، فقد أورد المفكر الفرنسي فولتير أن “المديح الأعمى خطرٌ على الممدوح أكثر من الذم العاقل”. وانتشار الفساد والمحسوبية نتيجة طبيعية لهذا السلوك، كما نبه الفقيه ابن القيم إلى أن “الرياء والتملق باب من أبواب النفاق الذي يفسد القلب والمجتمع”.
لمكافحة هذه الظاهرة، يجب تعزيز ثقافة الصدق والمساءلة، كما أكد الفيلسوف كانط أن “الاستقامة والصدق أساس الثقة في المجتمعات المتحضرة”. كما ينبغي إعلاء مبدأ الجدارة والاستحقاق بحيث لا يكون للمتملقين مكان على حساب الكفاءات. لا بد من إحياء قيمة النصح الصادق، فقد قال النبي محمد ﷺ: “الدين النصيحة”، مما يؤكد أهمية الصراحة في العلاقات الاجتماعية والسياسية. توعية الأفراد بمخاطر التملق ضرورية حتى لا يقع المجتمع في فخ المداهنة والتزييف.
في نهاية المطاف، يظل التملق آفةً لا تخدم إلا المصالح الآنية، لكنه يضعف المجتمعات ويفسد القيم. وكما قال سقراط: “الحاكم الحكيم هو من يُحاط بالنقاد لا بالمتملقين”، فإن نجاح الأمم يرتبط بمدى قدرتها على تقدير الحقائق، لا الأوهام.