مقالات الرأي

السودان بين وفرة الموارد وعجز الإدارة

المستشار القانوني الطيب مضوي شيقوق يكتب لـ(5Ws-service)

بقلم المستشار: الطيب مضوي شيقوق 

لم يكن هذا ما حلم به الآباء المؤسسون، ولا ما أنشد له الشعراء وتغنّى به الفنانون في أعراس الحرية الأولى. لم يكن هذا ما تصوره جيل حمل راية الاستقلال، وهو يحدّق في الأفق باحثًا عن فجر جديد.

 

حلمنا بوطن نفاخر به العالم، نبنيه بسواعدنا ونرعاه بضمائرنا، وطنٍ يجد فيه كل سوداني موضع قدم وموضع كرامة. وطن نحميه ونغنيه ونرفعه بين الأمم، وطن تفيض خيراته على أهله، لا أن تُنهب وتُبدد وتُدار بمنطق الغنيمة.

 

لكن مع مرور الأيام، تغيّرت الصورة. أصبح ذلك الحلم البعيد كأنما يبتعد عنّا أكثر. ومع كل فشل سياسي، ومع كل وعد كاذب، ومع كل انتكاسة وطنية، أصبحنا نرى وطننا يتقلص أمام أعيننا.

 

نزيف بلا توقف… وانكسار بلا نهاية

 

منذ سنوات، والسودان ينزف. ينزف من خاصرته الممزقة بالاقتتال، ومن روحه المهدورة في سوق السياسة الرخيصة. ينزف من فقره المدقع وسط ثرواته، ومن جوعه المحاصر في مخازن الحبوب. ينزف من ذاكرته التي أصبحت مثقلة بالخسائر والانكسارات، ومن أبنائه الذين امتهنوا الرحيل أو دفنوا في ترابهم بلا كفن ولا سببٍ واضح.

 

من دولة كانت تملك كل مقومات النهوض، إلى وطن يُطلب له “الوصاية” من فرط ما انهارت مؤسساته وتهاوت أعمدته.

 

الثروة لعنة إذا غابت الحكمة

 

نملك الأرض والماء، الذهب والنفط، الشمس والريح، والموقع الذي تحلم به كل دولة. نملك العقول النادرة، والكوادر التي ساهمت في بناء دول غيرنا. ومع ذلك، لم نشهد يومًا نهضةً تُضاهي ما نملكه.

 

الثروة، حين تُدار بلا رؤية، تصبح لعنة. والفرصة، حين تُهدر مرارًا، تتحول إلى نقمة. ما نعانيه اليوم ليس نقصًا في الإمكانيات، بل عجزٌ مزمن في الإرادة السياسية، وغيابٌ مخيف لمشروع وطني جامع.

 

كل حكومة أتت رفعت شعارات الإنقاذ والإصلاح، لكننا كنا في كل مرة نهوي أعمق في حفرة الفشل، وكأننا نتمرّن على الهزيمة حتى نتقنها.

 

التنوع الذي صار انقسامًا

 

نحن بلد غني بالتنوع الثقافي واللغوي والاجتماعي. وكان يمكن لهذا التنوع أن يكون منبعًا لقوة لا حدود لها. لكنه، بدلًا من أن يكون مصدر إلهام وبناء، تحول إلى وقود للانقسام.

 

وُظف التنوع بطريقة خاطئة، فأنتج خطاب كراهية لا يعرف سوى الإقصاء. أُهملت الهوية الوطنية الجامعة، فتمترس الناس خلف انتماءاتهم الضيقة، وتحوّل الوطن إلى خارطة مصالح متقاطعة، لا مشروع مشترك.

 

هل بقي من الأمل شيء؟

 

نعم، رغم كل شيء، لا تزال هناك مساحة صغيرة للأمل. لكنها ليست أملًا مجانيًا، بل أمل مرهون بشروط قاسية وواضحة:

 

أن نعيد تعريف الوطنية بوصفها عقدًا اجتماعيًا يحمي الجميع لا يفضل أحدًا على أحد.

 

أن نحاسب أنفسنا قبل أن نطلب محاسبة غيرنا، ونكفّ عن صناعة الأصنام من السياسيين.

 

أن نُعيد بناء الدولة من القواعد، لا من فوق، عبر مؤسسات حقيقية مستقلة، لا عبر التسويات.

 

أن نُفعّل صوت الشارع لا بانفعالاته، بل بوعيه ونقاباته ومطالبه العادلة.

 

أن نؤمن أن السودان أكبر من أي حزب، وأهم من أي زعيم، وأبقى من أي سلطة.

 

ختامًا…

 

السودان ليس وطنًا عابرًا. هو ذاكرة أمة، ووجدان قارة، ومفتاح لمستقبل لم يُكتب بعد.

نحن أمام مفترق طرق حاسم: إما أن نواصل السقوط حتى النهاية، أو أن نضع حدًا لهذا الانحدار، ونلتقط خيط الأمل الأخير لننسج منه وطنًا جديدًا.

 

وحدها الإرادة الجماعية يمكنها أن تُخرجنا من هذا النفق. أما الانتظار، فقد طال بما يكفي.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى