مقالات الرأي

السودان على أعتاب النهضة الصناعية.. تحديات راهنة وحلول استراتيجية

الأستاذ سمير سيد عثمان يكتب ل"5Ws-service"

السودان على أعتاب النهضة الصناعية.. تحديات راهنة وحلول استراتيجية

بقلم / سمير سيد عثمان

لا يُخفي على أحدٌ الإمكانات الهائلة التي يمتلكها السودان ليكون عملاقًا صناعيًا في المنطقة ،، بموارده الطبيعية المتنوعة ،، وموقعٍ جغرافيٍ متميز،، وقوةٍ بشريةٍ طموحة ..
لكن العقود الماضية كشفت عن تحدياتٍ بنيويةٍ أعاقت تحويل هذه الإمكانات إلى واقع ملموس ،، مما يستدعي وقفةً جادةً من الحكومة وشركاء التنمية لإنقاذ القطاع الصناعي من حالة الجمود ،، ودفعه نحو آفاق التنمية المستدامة ..

تشكل الطرق غير المعبدة،، وانقطاعات الكهرباء المتكررة،، والموانئ البدائية،، عوائقَ أمام أي محاولةٍ لتنشيط الإنتاج الصناعي ..
فكيف يُمكن للمصنع أن ينافس عالميًا إذا كانت تكلفة نقل المواد الخام أعلى من تكلفة إنتاجها؟ وكيف تُدار الآلات دون كهرباءٍ مستقرة؟ إن ضعف البنية التحتية لا يُثقل كاهل الصناعيين فحسب ،، بل يحول دون جذب الاستثمارات الخارجية التي تتطلب بيئةً عملٍ موثوقة ..

من مشاكل الصناعة اعتماد معظم المصانع على مولداتٍ خاصةٍ نتيجة عدم استقرار شبكة الكهرباء ،، لتصبح أزمة الطاقة شبح يطارد الإنتاج مما يرفع تكاليف التشغيل بنسب عالية ..
وفي ظل ندرة الوقود ،، تصبح القدرة على الإنتاج رهينةً بتقلبات السوق السوداء ،، ما يفقد الصناعة السودانية قدرتها على المنافسة محليًا ودوليًا ..

وهنا تبرز اكبر المشاكل والمعوقات التي تواجه الصناعة في السودان اليوم هي ندرة الطاقة ،، وهي مشكلة تؤثر بشكل مباشر على قدرة المصانع السودانية على التنافس في الأسواق المحلية والعالمية ..
فالكثير من الدول الصناعية تعتمد على الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة ،، وذلك لأنه يعد الأقل تكلفة مقارنة بمصادر الطاقة الأخرى ،، ما يساهم في تقليل تكاليف الإنتاج وبالتالي القدرة على تقديم منتجات منافسة بسعر أقل ..
بينما يعاني السودان من نقص حاد في إمدادات الطاقة ،، مما يجعل تكلفة الإنتاج مرتفعة ،، وبالتالي يضعف قدرتنا على التنافس مع الدول التي تتمتع بتوفير مستمر للطاقة بأسعار معقولة ..

لذلك نرى من الضروري أن تتخذ الحكومة السودانية خطوات جادة في الاستثمار في الطاقات البديلة ،، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ،، التي يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في تغطية جزء من احتياجاتنا للطاقة ..
كما يمكن التعاون مع دول ذات خبرة في هذا المجال ،، مثل المملكة العربية السعودية وبعض الدول الأخرى التي سبقتنا ،، للاستفادة من تقنياتهم في إنتاج الطاقة بأسعار منخفضة ومستدامة ..

مع التركيز على وضع خطط استراتيجية لتوسيع شبكة الطاقة في السودان وتوفير التمويل اللازم لتحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في مشاريع الطاقة البديلة ..

من المشاكل غير المنظورة في الصناعة غياب منهج صناعي متطور .. حيث يعاني قطاع التعليم الصناعي في السودان من نقص كبير في المنهج التعليمي المتخصص ،، الذي لا يواكب التطور السريع الذي تشهده الصناعات في العالم ..
المنهج الحالي في غالبية المؤسسات التعليمية يعتبر تقليديًا ويقتصر على أساسيات الصناعات القديمة دون إدراك متطلبات الثورة الصناعية الرابعة أو احتياجات الأسواق المعاصرة ..

لذا يجب أن تتبنى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وزارة التربية والتعليم مع الجهات التقنية ذات الصلة تطوير منهج دراسي صناعي حديث يشمل أحدث الاتجاهات والتقنيات الصناعية التي تواكب التطور العالمي يدرس كمنهج متكامل لنواة التطور والابتكار ..

على سبيل المثال ،، يمكن إدخال الذكاء الاصطناعي ،، وتكنولوجيا المعلومات ،، والطباعة ثلاثية الأبعاد ،، وغيرها من الأساليب المتطورة التي أصبح لها دور كبير في الصناعة الحديثة ..
كما يجب تحديث المناهج الدراسية في المدارس الفنية والمعاهد العليا لتشمل مهارات تقنية متقدمة تتلاءم مع احتياجات الصناعة المعاصرة ..

وننصح بالتركيز والاهتمام بتدريب الكوادر الصناعية ،، حيث يقتصر التدريب في الوقت الحالي على الدراسة الأكاديمية فقط في كثير من الاحيان دون العمل علي تخصيص برامج تدريبية عملية تواكب تطورات الصناعة وتوفر المهارات المطلوبة مما يجعلنا خارج التغطية الصناعية ..

هذا يؤدي إلى وجود فجوة بين التعليم الأكاديمي واحتياجات السوق الصناعي الفعلي ،، هذه الفجوة تزيد من صعوبة توظيف الخريجين في القطاعات الصناعية ..

اذن من الضروري أن تقوم الدولة بتطوير برامج تدريبية عملية تتماشى مع احتياجات السوق الصناعي ..

يمكن للمؤسسات الصناعية الكبرى أن تشارك في توفير فرص التدريب والتطوير المهني للكوادر السودانية ،، خاصة في الصناعات المتقدمة مثل صناعة السيارات ، الإلكترونيات ، والطاقة المتجددة ..
يجب أن تكون هناك شراكة حقيقية بين المؤسسات الأكاديمية والصناعية ،، بما يتيح للطلاب تطبيق ما تعلموه في بيئات صناعية حقيقية قبل التخرج ..
ويمكن توجيه اهتمام أكبر نحو البرامج التدريبية قصيرة الأجل التي تركز على تطوير مهارات العمال المهنيين والفنيين لتلبية احتياجات الصناعة الحالية ..

إن معالجة هذه المشاكل تتطلب تضافر جهود الدولة والقطاع الخاص معًا ،، على أن تكون الاستثمارات في الطاقة ،، الطرق والتعليم والتدريب على رأس الأولويات لتحقيق صناعة قادرة على المنافسة تواكب التطور وتساهم في الإعمار والتنمية المستدامة في السودان ..

ايضا من التحديات التي تواجه الصناعة في السودان هي عدم وجود مراكز صناعية متكاملة ،، مما يؤدي إلى ضعف القدرة على الاستفادة من الموارد المحلية والمواد الخام المتوفرة في بعض مناطق الولايات .. في الوقت الذي يعاني فيه القطاع الصناعي من نقص في البنية التحتية والمرافق الداعمة ،، نجد أن هناك موارد طبيعية ضخمة غير مستغلة بالشكل الأمثل بسبب تباعد المسافات بين مناطق الإنتاج والمناطق الصناعية ..
وهذا يعوق الإنتاج ويزيد من تكاليف النقل ويحد من قدرة المصانع على التوسع ..

اذن التفكير في الحلول الأساسية التي يجب التركيز عليها والتي نضعها في الاعتبار هي إنشاء مدن صناعية في المناطق القريبة من مصادر المواد الخام أو تأهيل مصانع موجودة بالمنطقة وإدخالها دائرة الإنتاج الفعلي ..

هذه المدن ستشكل مراكز صناعية متكاملة تحتوي على كافة المنشآت الصناعية التي يمكنها الاستفادة المباشرة من المواد الخام المتاحة في المنطقة ،، مثل المناطق الزراعية أو التعدينية أو مناطق الثروة الحيوانية ..

إن المدن الصناعية ستسهم في خفض تكاليف النقل بشكل كبير ،، حيث سيتم نقل المواد الخام مباشرة إلى المصانع في نفس المنطقة ..
كما سيسهم ذلك في تشجيع الاستثمارات المحلية والدولية في صناعة المنتجات القائمة على المواد الخام المحلية ..

يمكن لهذه المدن الصناعية أن تشمل صناعات متنوعة مثل الصناعات الزراعية (المواد الغذائية) ،، صناعة النسيج ، صناعة المعادن ، صناعة الأسمدة ، صناعة الأغذية والمشروبات ، صناعة السكر ودباغة الجلود وغيرها من الصناعات التي تعتمد بشكل رئيسي على المواد الخام المتوفرة محليًا ..

في الختام ،، يمكن أن تسهم المدن الصناعية في تحقيق نهضة صناعية حقيقية ،، وتوفر مناطق عمل ومزايا اقتصادية كبيرة للمجتمع المحلي ،، ذلك يساهم بشكل مباشر في توفير فرص عمل وتحفيز النمو الاقتصادي ..
هذا النوع من الحلول سيعمل على تقليل التحديات التي تواجه الصناعة في السودان ويضعه على خريطة الصناعة العالمية بفضل استغلال الموارد المحلية بشكل أمثل ،، وبهذا يتحقق تقدم اقتصادي وتنموي ملحوظ..

عليه ينبغي على الحكومة السودانية أن تركز على تحسين البنية التحتية بشكل كبير بالاستفادة من حماس الدول المانحة ،، بما في ذلك إنشاء شبكة طرق حديثة ،، تحسين شبكات الكهرباء والماء،، وتطوير الموانئ ..
يجب أن تكون هذه الخطوات جزءًا من استراتيجيات التنمية الاقتصادية المستدامة المستقبلية ..

كما يجب أن يتم تسهيل الوصول إلى التمويل من خلال توفير قروض ميسرة للمصانع ،، وإعفاءات ضريبية على مدخلات الإنتاج ..
وايضا العمل علي تطوير سياسات تشجع التصدير إلى الأسواق العالمية من خلال تحسين جودة المنتجات السودانية والبحث عن أسواق جديدة ..

من المهم جدا إنشاء برامج تدريبية مهنية متخصصة في القطاعات الصناعية الحديثة لتأهيل الكوادر السودانية في المجالات المطلوبة ..
يمكن أن تسهم المؤسسات التعليمية والمراكز التدريبية في سد هذه الفجوة ..

تشجيع البحث العلمي والابتكار يساعد على تحسين عملية الإنتاج وابتكار منتجات جديدة ..
من خلال توفير التمويل للأبحاث والتطوير،، يمكن أن تنشأ حلول تقنية مبتكرة تساعد الصناعات السودانية على التوسع وزيادة تنافسيتها ..

علي الحكومة أيضا مراعاة إصلاح البيئة التنظيمية للصناعات عن طريق تبسيط الإجراءات وتقليل البيروقراطية ..
علاوة على ذلك ،، يجب توفير الحوافز للمستثمرين المحليين والدوليين لدعم المشاريع الصناعية ..

مع السعي بإقامة شراكات مع الدول ذات الخبرة في المجال الصناعي ،، يمكن نقل التكنولوجيا وتبادل المعرفة مما يساعد على تحسين الإنتاجية ..
هذه الشراكات قد تشمل التعاون مع دول مثل الصين وتركيا ودول أخرى لها تاريخ طويل في الصناعات الثقيلة ..

إن معالجة هذه المشاكل يتطلب استراتيجيات متكاملة تشمل العمل المشترك بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المحلي ..
وبتنفيذ هذه الحلول ،، من الممكن أن يتحول السودان إلى دولة صناعية قادرة على تلبية احتياجاتها الداخلية وتعزيز مكانتها في الاقتصاد العالمي ..

ليست مشاكل الصناعة السودانية قدرًا محتومًا ،، بل هي نتاج سياساتٍ تراكمية قابلة للتغيير ..
فالدول التي حققت معجزات صناعيةً لم تكن تمتلك مواردًا أكثر من السودان ،، لكنها امتلكت إرادة سياسيةً حوّلت التحديات إلى فرص ..
اليوم يحتاج السودان إلى خطة صناعية عاجلة تُشرك فيها الحكومةُ القطاع الخاص والمجتمع الدولي ،، مع وضع مؤشرات أداءٍ واضحةٍ ومحاسبة على التنفيذ ..
فقط حينها،، سنشهد ميلاد صناعة وطنية تُعيد للسودان مجده الاقتصادي ،، وتوفر فرص عملٍ للشباب ،، وتُخرج البلاد من دوامة الاستيراد إلى آفاق التصدير والاكتفاء الذاتي ..

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى