
بقلم/ المستشار القانوني الطيب مضوي شيقوق
منذ الاستقلال، ظل السودان في حلقة مفرغة من الانقلابات العسكرية والصراعات الحزبية، حيث تتعثر كل محاولة لبناء ديمقراطية حقيقية أمام الانقسامات الداخلية وتدخل الجيش المستمر في السياسة. وبذلك، يستمر السودان في إعادة إنتاج الأزمات السياسية دون إحراز تقدم نحو الاستقرار الديمقراطي.
أول ما يطفو على السطح عند التأمل في أزمة السودان السياسية هو الأحزاب نفسها، التي يُفترض أن تكون حاملة لواء الديمقراطية، لكنها تحولت في معظمها إلى كيانات مجمدة، تحكمها الزعامات الأبدية والعائلات المتوارثة. هذه الأحزاب ظلت عاجزة عن تجديد دمائها، غارقة في صراعاتها الداخلية، تدير معاركها بمنطق الاستقطاب والإقصاء، دون أن تقدم نموذجًا يُحتذى به في الممارسة الديمقراطية. فالديمقراطية بالنسبة لهذه الأحزاب ليست أكثر من شعار يُرفع حين تكون خارج السلطة، وسلاح يُشهر ضد الخصوم، لكنها حين تصل إلى الحكم، تمارس ذات الاستبداد الذي ظلت تعارضه.
وفي ظل هذا الفراغ، لم يكن الجيش بعيدًا عن المشهد، بل كان فاعلًا رئيسيًا. لم يلعب دوره الطبيعي كحارس للدستور، بل تحول إلى طرف في الصراع السياسي. ومع غياب توافق مدني قادر على بناء دولة مؤسسات، وجدت الثكنات العسكرية نفسها دائمًا في موقع اتخاذ القرار، فتحولت البنادق من أداة لحماية الوطن إلى وسيلة لإعادة تشكيل المشهد السياسي.
الخروج من هذه الأزمة لا يمكن أن يكون بتغيير الأشخاص أو الحكومات، بل بتحول جذري في بنية العمل السياسي نفسه. فالديمقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع، بل منظومة متكاملة تتطلب إصلاحات عميقة تمتد من الأحزاب إلى مؤسسات الدولة كافة.
أول ما يجب إصلاحه هو الأحزاب نفسها. فبدون ديمقراطية داخلية حقيقية، ستظل هذه الكيانات عاجزة عن إنتاج قيادات جديدة، وستظل الانتخابات مجرد إجراء شكلي لإعادة تدوير ذات النخب التي لم تجلب للسودان سوى الفشل. لا بد من إعادة بناء الأحزاب على أسس مؤسسية، بحيث يكون المعيار الوحيد للقيادة هو الكفاءة، لا الولاء الشخصي أو التاريخ العائلي.
ثم يأتي الجيش، الذي لا يمكن للديمقراطية أن تزدهر في ظل تدخله المستمر في السياسة. لا بد أن يكون للجيش دور محدد وواضح: حماية حدود الوطن وأمنه، لا إدارة شؤونه السياسية. ولتحقيق ذلك، يجب إعادة هيكلة العلاقة بين السلطة المدنية والعسكرية، بحيث تكون هناك ضمانات حقيقية تمنع أي طرف من تجاوز حدوده.
أما القضاء، فهو حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي، وهو الضامن لسيادة القانون. لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية إذا لم يكن القضاء مستقلاً، غير خاضع للسلطة التنفيذية، ولا أداة في يد أي جهة سياسية.
ولا يمكن إغفال قضية العدالة الانتقالية، فالسودان يحمل جراحًا غائرة، من الحروب الأهلية إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لا يمكن بناء مستقبل ديمقراطي دون معالجة إرث الماضي، سواء بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، أو بجبر الضرر للضحايا، أو بالمصالحة التي تضمن عدم تكرار المآسي.
تحقيق ديمقراطية حقيقية يتطلب أيضًا وجود ناخب واعٍ يدرك أهمية صوته ويُمارس حقه في التصويت دون التأثر بالمغريات المالية أو ضغوط الزعامات الأهلية والدينية. يجب أن يُشجع المواطن على الاختيار بناءً على الكفاءة والبرامج السياسية وليس الولاءات الضيقة أو المصالح الشخصية. المواطن الذي يبيع صوته لمصلحة آنية يساهم بشكل مباشر في إضعاف الديمقراطية وإعادة إنتاج الفساد وسوء الإدارة.
لا بد من جهد وطني لرفع وعي المواطنين حول حقوقهم السياسية من خلال برامج تعليمية وإعلامية تعزز ثقافة الانتخاب الحر وتُشجع على التفكير النقدي في اختيار المرشحين. فالمواطن الذي يبيع صوته يسهم في تأبيد الفساد وضعف الحكم.
بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي يبدأ من الفرد، من وعيه بحقه في اختيار من يمثله بحرية ودون ضغط. الانتخابات ليست مناسبة عابرة، بل مسؤولية تاريخية تحدد مسار البلاد لعقود قادمة.
اليوم، يقف السودان أمام مفترق طرق. إما أن يلتقط الفرصة ليؤسس لديمقراطية حقيقية ومستدامة، وإما أن يسقط مجددًا في هاوية الصراعات والانقلابات. الخيار ليس بيد الجيش وحده، ولا بيد السياسيين فقط، بل هو مسؤولية الجميع. المواطن يجب أن يدرك أن الديمقراطية ليست هبة تُمنح، بل حق يُنتزع، ويُحمي، ويُغرس في وجدان الأمة.
لقد جرب السودان كل أشكال الحكم، من الديمقراطيات الهشة إلى الديكتاتوريات العسكرية، ولم ينجح أي منها في تحقيق الاستقرار. فهل آن الأوان لكتابة فصل جديد يكون فيه الشعب هو الحَكم، والقانون هو الفيصل، والديمقراطية هي القاعدة التي لا حياد عنها؟
قد يكون هذا هو التحدي الأكبر في تاريخ السودان الحديث، لكن كل الأمم التي نهضت من كبواتها مرت بلحظات كهذه، حيث يصبح الخيار واضحًا بين السير إلى الأمام أو العودة إلى الوراء. والسودان، الذي لطالما كان مهدًا للتحولات الكبرى، قادر على أن يكون جزءًا من التاريخ الذي يُكتب، لا مجرد شاهد على تكرار الأخطاء.
فهل يكون القادم مختلفًا؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام.