مقالات الرأي

الطريق إلى النهضة الاقتصادية الشاملة .. من البنية التحتية إلى الاستقرار المؤسسي

فايف دبليوز سيرفس

بقلم/ سمير سيد عثمان

في عالم تزداد فيه وتيرة التنافس والتغيير ،، لم يعد النمو الاقتصادي ترفًا أو هدفًا عابرًا ،، بل أصبح ضرورة وطنية ومسؤولية استراتيجية ..

لم يعد يُقاس التقدّم بمجرد ارتفاع مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي ،، بل بمدى قدرة الدولة على بناء منظومة اقتصادية متماسكة ،، تبدأ من أساس مادي صلب يتجلى في بنية تحتية فعالة ،، وتنتهي باستقرار مؤسسي يُحصّن المكتسبات ويضمن استمراريتها ..

النهضة الاقتصادية الحقيقية لا تقوم على المعالجات الظرفية ولا الشعارات ،، بل على خطط ذكية تُدرك العلاقة العضوية بين الكهرباء ،، والطرق ،، والموانئ ،، والحوكمة ،، والعدالة ،، والاستقرار السياسي ..

إنها سلسلة مترابطة ،، إذا اختلّ أحد حلقاتها تعثّر الجميع ..

كذلك في قلب أي مشروع نهضة اقتصادية شاملة ،، لا بد من الانطلاق بإصلاحات هيكلية عميقة تتجاوز مفهوم الترميم المؤقت إلى إعادة بناء المنظومة الاقتصادية برمتها على أسس أكثر عدالة وفاعلية ..

ويتطلب هذا التحول مراجعة السياسات الاقتصادية التي تعيق انسياب الإنتاج ،، بما في ذلك إصلاح منظومات الجباية والضرائب بما يجعلها أدوات لتحفيز النمو لا عوائق له ..

كما يجب إعادة هيكلة الرسوم الجمركية بطريقة تُخفض من كلفة مدخلات الإنتاج الصناعي والزراعي ،، وتُسهم في تعزيز تنافسية المنتج المحلي أمام السلع المستوردة ..

ولأن الاستثمار هو الوقود الذي يدفع عجلة الاقتصاد نحو الأمام ،، فإن السياسات المالية والنقدية الذكية تصبح بمثابة المغناطيس الذي يجذب رؤوس الأموال ويُطمئن المستثمرين ..

من خلال حوافز ضريبية مدروسة ،، وتسهيل إجراءات تأسيس الشركات ،، وبناء نظام نقدي مستقر قادر على احتواء التضخم ،، إلى جانب قطاع مصرفي مرن يموّل المشاريع الإنتاجية ،، تُخلق بيئة واعدة تُغري المستثمر المحلي والخارجي على حد سواء ..

وفي ذات السياق ،، فإن خلق بيئة أعمال حاضنة يتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعات ،، لا سيما من خلال تنظيم العمل الإنتاجي في شكل تعاونيات مهنية ،، أو عبر عقود إنتاج واضحة تحفظ الحقوق وتضمن استقرار الأسواق ..

هذه الإجراءات تمهد لبناء اقتصاد تنافسي عادل ،، يُحَرّر طاقات المنتجين ،، ويضمن استدامة سلاسل القيمة ،، ويحول الاقتصاد من حالة الاعتماد إلى الاكتفاء ،، ومن الجمود إلى ديناميكية متجددة ..

رأس المال الحقيقي في مسار النهضة الاقتصادية ليس فقط في المصانع والمباني ،، بل في الإنسان ذاته ..

فبعد أن نُشيد الآلة ونمهد الأرض ،، يأتي الدور لمن سيقود هذا التقدّم ،، الموارد البشرية ..

لذلك ،، فإن الاستثمار في العنصر البشري يجب أن يكون في صميم الرؤية الإقتصادية ،، من خلال التدريب المستمر ،، ومواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل ،، خصوصاً في الجوانب التقنية والمهنية ،، إلى جانب تحسين جودة حياة الأفراد عبر الرعاية الصحية ،، والسكن الكريم ،، ونظم الحماية الاجتماعية ..

هذه ليست كماليات ،، بل ضرورة لإنتاج عامل مبدع ،، منتج ،، مستقر نفسياً واجتماعياً ..

ولأن العالم يشهد تحولات متسارعة بفعل التكنولوجيا ،، فإن تبنّي أدوات العصر أصبح ضرورة لا رفاهية ..

مواكبة التطور الرقمي والابتكار الصناعي تُعد من أهم عناصر الجاذبية الاستثمارية ،، إذ تسهم في تقليل التكاليف ،، وتحسين الكفاءة ،، وتقوية تنافسية المنتج المحلي ..

كما أن وجود بيئة صناعية وتقنية حديثة تطمئن المستثمرين المحليين والأجانب بأن مشاريعهم ستُدار بأعلى درجات الجودة والشفافية ..

ولا يمكن لأي نهضة اقتصادية أن تُبنى على الطموح فقط ،، بل تحتاج إلى وقود مستدام يتمثل في دعم البحث العلمي والتنمية المتوازنة ..

فالإبداع والابتكار هما ثمرة استثمار واعٍ في مراكز الأبحاث ،، والجامعات ،، والمبادرات التي تخلق حلولاً من رحم الواقع ..

هنا تتلاقى مسؤوليات الدولة والقطاع الخاص معاً في خلق بيئة حاضنة للفكر والتطوير ،، دون إهمال البُعد البيئي لضمان الاستدامة ..

وفي قلب هذه المعادلة كلها ،، يظل الاستقرار المؤسسي هو الشرط الأول لاستدامة أي إنجاز ..

وجود مؤسسات قوية ،، قوانين واضحة ،، شفافية في المعاملات ،، وضمانات للمستثمرين ،، هي ما يجعل أي بيئة جاذبة للنمو ..

ومحاربة الفساد هنا ليست مجرد شعار ،، بل هي معركة وجودية ،، لأن الفساد يمتص الثقة ،، ويُهدر الموارد ،، ويقوّض التنافسية ..

فالحوكمة الرشيدة ليست ترفاً ،، بل صمام أمان ..

وإذا اكتمل الداخل بالاستقرار والتحديث ،، فإن الانفتاح الخارجي الواعي يصبح ضرورة ..

التعامل مع العالم بمنطق الشراكة لا التبعية ،، والانخراط في اتفاقيات تحقق المصالح المتبادلة ،، يفتح آفاقاً جديدة أمام الاقتصاد المحلي ..

هذا الانفتاح ليس فقط لتوسيع الأسواق ،، بل أيضاً لتبادل الخبرات ،، وجذب التكنولوجيا ،، وتنويع مصادر الدخل ..

في نهاية هذا المسار ،، ندرك أن النهضة الاقتصادية ليست ضرباً من الخيال ،، بل هي مسار قابل للتحقيق إذا توفرت الإرادة والرؤية الواضحة ..

من البنية التحتية إلى الاستقرار المؤسسي ،، ومن دعم الموارد البشرية إلى تبني التكنولوجيا ،، تتكامل الحلقات لترسم معالم اقتصاد صلب وقادر على الصمود والمنافسة ..

إن مفتاح هذا الطريق ليس فقط في القرارات الكبرى ،، بل في التفاصيل الصغيرة التي تعني كل مواطن ،، وكل مشروع ،، وكل فرصة للنمو ..

إنه طريق طويل ،، نعم ،، لكنه يستحق أن نبدأه الآن ،، بخطوة جادة ،، نحو غدٍ يستند إلى الإنتاج ،، ويقوده الإنسان ،، ويحكمه الاستقرار.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى