
بقلم / سمير سيد عثمان
في ظل المشهد السوداني الراهن ،، يبدو أن القطاع المصرفي يقف عند مفترق طرق حاسم ،، حيث لم تترك الحرب آثارها فقط على الجغرافيا والبشر ،، بل هزّت أيضاً البنية المؤسسية لأحد أهم أركان الاقتصاد ،، الجهاز المصرفي ..
ولعل تشخيص التحديات التي تواجهه اليوم ليس ترفًا تنظيريًا ،، بل خطوة حتمية نحو بلورة رؤية إصلاحية تنقذه من الانهيار وتضعه على سكة النهوض ..
إنّ ما تعرّضت له البنوك السودانية من تدمير واسع لمقارها الرئيسية وفروعها المنتشرة في العاصمة والمناطق المتأثرة بالحرب يعتبر بمثابة الجرح المفتوح ،، لم يكن مجرد خسارة في مبانٍ وأجهزة ،، بل انهيار في قلب المنظومة التشغيلية للمصارف ..
الأنظمة البنكية تعثرت ،، قواعد البيانات تضررت ،، البنية التقنية انهارت ،، والكوادر البشرية تسربت قسرًا من مواقع الخدمة ..
بذلك أصيبت الدورة المالية بالشلل التام ،، وتوقفت معها الثقة ،، والقدرة على الوصول إلى الأموال والخدمات ..
هذا الدمار لا يمكن النظر إليه كحدث عابر ،، بل هو سؤال وجودي للقطاع المصرفي السوداني ،، كيف نعيد تشغيل آلة الاقتصاد من دون عقل مركزي قادر على العمل؟
كيف تنهض المؤسسات المالية دون غرفة عمليات رقمية متطورة تدير حركة الأموال والتحويلات والتسويات؟
لذلك نحن أمام ضرورة وطنية عاجلة لما يمكن تسميته “بـخطة إنعاش مصرفي” ،، تبدأ خطة الإنعاش المصرفي ..
أولاً : بإعادة تشييد البنية المادية للمصارف بصورة حديثة تتجاوز النمط التقليدي ،، وتعتمد اللامركزية كأداة لتقليل المخاطر المحتملة في حال حدوث أزمات مستقبلية ،، بحيث لا يكون وجود المصرف مرهونًا بمركزية جغرافية واحدة ..
في ذات الوقت ،، لابد من إعادة بناء البنية الرقمية بالكامل وفق معايير حديثة ترتكز على الأمن السيبراني والمرونة التشغيلية ،، مع تبني حلول الحوسبة السحابية واعتماد نسخ احتياطية للأنظمة خارج نطاق المناطق المعرضة للنزاع ،، بما يضمن استمرارية العمل وحفظ البيانات مستقبلا ..
كذلك لا يمكن تجاوز أهمية العنصر البشري ،، إذ يتطلب الأمر تدريب وتأهيل الكوادر المصرفية التي عادت أو ستعود لمواقعها ،، وتوفير بيئة عمل محفزة ،، مرنة ،، وآمنة تسمح بالابتكار وتضمن جودة الأداء ..
ولتحقيق ذلك يصبح الدعم الحكومي أمرًا لا غنى عنه ،، إلى جانب ضرورة عقد شراكات فاعلة مع منظمات التنمية الإقليمية والدولية ،، بما يسهم في تعويض الخسائر ،، وتمويل مشروعات إعادة التأهيل والبناء المؤسسي للمصارف ..
نحن لا نحتاج فقط إلى ما كان ،، بل إلى ما يجب أن يكون ،، بنية تحتية ذكية مرنة قابلة للتوسع ،، ومحمية ضد الصدمات ..
فالإعمار المصرفي ليس فقط حجرًا يُرفع ،، بل نظامًا يُبنى من الصفر ليواكب الطموحات ..
ثانيا : فقدان الثقة في الجهاز المصرفي بعد الحرب يشبه تآكل الجدار الأخير بين المواطن والدولة ..
لم تكن البنوك مجرد مبانٍ تُقصف أو تُغلق ،، بل كانت رموزاً للاستقرار ،، ومظلات للأمان المالي ،، وواجهات تعكس ثقة المواطن في الدولة وقدرتها على إدارة أمواله ..
الحرب بكل ما فيها من رعب وفوضى ،، نسفت هذه المعاني من جذورها ..
وهذا الانهيار في العلاقة النفسية بين المواطن والمصرف لا يُعالَج بتطمينات عابرة ،، بل بحاجة إلى جهد إصلاحي عميق وشجاع يعيد تعريف دور البنك في حياة الناس ،، ويؤسس لعهد جديد من الشفافية والانفتاح ..
لا بد أن يشعر العميل أن ماله محفوظ ،، وحقوقه مصانة ،، وأن المصرف لا يغلق أبوابه وقت الأزمات ،، بل يبادر بالحلول ..
استعادة ثقة المواطن تبدأ بإجراءات حقيقية مثل تسهيل الوصول إلى الحسابات من أي مكان ،، وتقديم تسويات واقعية للحسابات المتضررة ،، وتبني أدوات مالية مبتكرة توفر الأمان والمرونة في آن واحد ..
المصارف التي تنجح في ترميم هذا الجسر المكسور بينها وبين الجمهور ،، هي وحدها من تستحق أن تكون جزءاً من مستقبل اقتصادي جديد ..
فبدون ثقة الناس ،، لا تنمية ،، ولا استقرار ،، ولا إعمار ..
ثالثا : الحرب عمقت العزلة الاقتصادية لمناطق واسعة ،، وحرمت الملايين من الوصول للخدمات المصرفية ،، مما دفعهم للجوء إلى الاقتصاد الموازي وغير الرسمي .، لذا نجد أن الشمول المالي تراجع إلى مستويات حرجة ،، مما ينذر بانهيار أكبر ..
وهنا لا بد من مبادرات مبتكرة مثل المحافظ الرقمية ،، الصيرفة المتنقلة ،، ونوافذ التمويل الأصغر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ،، والوصول لمن هم على الهامش ..
رابعا : العزلة الدولية سجن الاقتصاد ،، معظم المصارف السودانية أصبحت اليوم في حالة شلل خارجي ،، لا ترتبط بأنظمة السويفت ،، ولا تستطيع التعامل مع المصارف المراسلة ،، بسبب التحديات الأمنية والامتثالية ..
هذه العزلة تعني أن الاقتصاد السوداني يعمل بنصف رئة ..
الإصلاح هنا يتطلب مشروعاً سياسياً ومالياً شجاعاً يعيد السودان إلى المنظومة المصرفية العالمية تدريجياً ،، عبر الامتثال ،، الشفافية ،، والشراكات البنّاءة ..
خامساً: دخلت المصارف السودانية أتون الحرب وهي تُعاني أساساً من ضعف في القاعدة الرأسمالية هشاشة رؤوس الأموال ،، فجاءت الأزمة لتقضي على ما تبقى من احتياطات ،، وتُربك موازينها المالية ،، وتُعرّي هشاشتها البنيوية أمام أقل الصدمات ..
فكيف لقطاع مالي عاجز أن يكون ذراعاً لإعمار وطن؟
كيف له أن يواجه التضخم ،، أو يُمول الإنتاج ،، أو يُعيد الثقة للأسواق؟
إن استمرار المصارف بهذا الضعف يُحولها إلى مؤسسات عاجزة عن النهوض ،، مجرد نوافذ للحد الأدنى من الخدمات ،، بلا أثر اقتصادي حقيقي ..
الإصلاح هنا ليس خياراً بل حتمية ،، ويبدأ من مراجعة شاملة لهيكل رؤوس الأموال ،، وفتح المجال لرفعها عبر الشراكات ،، الاستثمار ،، أو حتى إعادة الدمج الاستراتيجي بين البنوك الحكومية لتكوين كيانات مصرفية أكثر صلابة وقدرة ..
المرحلة القادمة تحتاج مصارف قوية لا تُربكها الأزمات ،، بل تصمد أمامها ،، وتتحول لأدوات فعالة في بناء الدولة من جديد ..
في سياق أي إصلاح شامل وجاد للقطاع المصرفي السوداني بعد الحرب ،، لا يمكن تجاوز المؤسسة المحورية لهذا النظام ،، بنك السودان المركزي ..
فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الأعلى ،، من الرأس المنظّم والمراقب والموجه ..
إن ضعف انتشار المصارف في الولايات ،، وتراجع الشمول المالي ،، يعكس قصوراً في السياسة النقدية والرقابية ،، ويتطلب من البنك المركزي مراجعة جذرية لأدواره التقليدية ..
فلا يمكن الحديث عن إعادة إعمار اقتصادي دون بنك مركزي يمتلك رؤية مرنة ،، حديثة ،، شاملة ،، قادرة على تعزيز إدارة المخاطر ،، وتطوير وتشحيع البنية التقنية للمصارف ،، ودعم التحول الرقمي بكل أدواته ..
كما أن السياسة التمويلية للبنك المركزي ستكون حجر الزاوية في مرحلة ما بعد الحرب ،، إذ عليها أن توازن بين الحاجة إلى تحفيز الإنتاج ،، وضبط التضخم ،، والتعامل مع الواقع الجديد للديون المعدومة التي راكمتها الأزمة ..
البنك المركزي ليس مجرد جهة رقابية ،، بل هو “الأب الروحي” للقطاع المصرفي ،، والراعي الأول لاستقراره ..
ومن هنا تبرز ضرورة شمول الإصلاح للبنك المركزي نفسه ،، من حيث السياسات ،، الهياكل ،، وأدوات التدخل ،، ليكون بحق ،، القائد الفعلي لنهضة مصرفية تواكب تحديات الإعمار وتلبي طموحات المستقبل ..
اخيرا ما يواجه القطاع المصرفي السوداني اليوم هو اختبار بقاء ..
الحرب فعلت فعلها ،، لكن البقاء في وضع الجمود هو الخطر الأكبر ..
نحتاج إلى إرادة وطنية سياسية ومصرفية تقود جراحة شاملة لإعادة بناء هذا القطاع الحيوي ،، ليكون ركيزة لا عبئًا على طريق الإعمار والنهضة ..
الإصلاح يبدأ من الاعتراف ،، يمر بالإرادة ،، وينتهي بالفعل ..
والسودان ،، رغم الجراح ،، لا يزال قادراً على النهوض ..