
بقلم / سمير سيد عثمان
في ظل الظروف الاقتصادية الحرجة التي يمر بها السودان ،، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة النظر في إستراتيجيات النهوض بالاقتصاد الوطني بعيداً عن الحلول المؤقتة والمسكنات المستوردة التي لم تعد تنفع في واقع معقد ومتشابك ..إن بناء اقتصاد قوي ومستقر يبدأ من الداخل ،، من دعم الصناعات الوطنية وتحفيز الإنتاج المحلي ،، باعتبارهما حجر الأساس لأي نهضة تنموية حقيقية ..
لقد أثبتت التجارب في مختلف الدول أن الاعتماد على الإنتاج المحلي ليس خيارًا بقدر ما هو ضرورة سيادية واقتصادية ..
لا يمكن لبلد أن يحقق اكتفاءه أو ينهض بمواطنيه دون أن يملك القدرة على إنتاج غذائه ،، ودوائه ،، ولباسه ،، ومدخلات صناعته ..
فكيف يمكن لاقتصاد أن يقوم وهو يستورد حتى أبسط احتياجاته ،، ويترك موارده الطبيعية دون تصنيع ،، وعمالته دون تأهيل ،، ومصانعه دون تشغيل؟
إن الصناعات الوطنية هي العمود الفقري لأي اقتصاد طموح ..
فهي تمثل موردًا حقيقيًا للنقد الأجنبي من خلال التصدير ،، وتوفر فرص عمل حقيقية ،، وتخلق قيمة مضافة على المواد الخام ،، كما تسهم في تحقيق التوازن في الميزان التجاري ،، وتخفف العبء عن كاهل الدولة في توفير العملات الصعبة ..
ولعل أبرز التحديات التي تواجه القطاع الصناعي في السودان اليوم ،، هي ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج ،، وشح التمويل ،، وغياب الدعم الحكومي الممنهج ،، إضافة إلى البيروقراطية التي تعطل نمو المشاريع ..
لا يمكن الحديث عن نهوض الصناعة الوطنية دون دور فعّال من الدولة في تهيئة البيئة المناسبة للإنتاج ..
من هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى معاملة القطاع الصناعي بنفس الاهتمام الذي يُمنح للقطاع الزراعي ،، لا سيما في ما يتعلق بتعريفة الكهرباء ،، إذ يُوصى أن تكون تسعيرة الكهرباء المخصصة للمصانع ثابتة ومنخفضة على مدار العام ،، على غرار ما هو معمول به في القطاع الزراعي ،، وذلك لتمكين المصانع من التخطيط والإنتاج بكفاقة ..
كما يستوجب الأمر التدخل العاجل لمعالجة ضعف الإمداد الكهربائي في المناطق الصناعية الرئيسية بولاية الخرطوم والجزيرة ،، من خلال صيانة وتوفير المحولات ودعم الشبكات ،، بما يضمن تشغيل المصانع دون انقطاع ..
بالإضافة إلى ذلك ،، فإن دعم مدخلات الإنتاج يجب أن يُفعّل بطريقة مباشرة ،، خاصة في ما يتصل بالضروريات الأساسية للإنتاج الصناعي مثل الطاقة ،، والمواد الخام ،، وقطع الغيار ..
ويُستحسن أن يشمل هذا الدعم توفير تمويل بالعملات المحلية والأجنبية ،، بشروط ميسّرة ومتوسطة إلى طويلة الأجل ،، للصناعات الاستراتيجية مثل الغزل والنسيج ،، وتجهيز الصمغ العربي ،، وتصنيع اللحوم ،، وغيرها من الصناعات ذات القيمة المضافة العالية ،، مما يسهم في تحريك عجلة الاقتصاد وتحقيق الاكتفاء والتصدير ..
مدخلات الإنتاج هي العصب الأساسي لأي عملية صناعية ..
فإذا لم تتوفر هذه المدخلات بشكل منتظم ،، وبأسعار تنافسية ،، فإن خطوط الإنتاج ستتوقف ،، والمنتجات ستغيب ،، والأسواق ستفرغ لصالح السلع المستوردة ..
لذا فإن توفير مدخلات الإنتاج بأسعار مدعومة يجب أن يكون أولوية وطنية ،، وليس فقط مطلبًا من رواد الصناعة ..
فالمصانع لا تستطيع المنافسة ولا حتى الاستمرار إن كانت تشتري المواد الخام بأسعار السوق السوداء ،، وتدفع فواتير كهرباء باهظة ،، وتتكبد تكاليف لوجستية غير مستقرة ..
من هنا فإن دعم الدولة لهذه المدخلات ،، سواء عبر الإعفاءات الجمركية ،، أو عبر توفير النقد الأجنبي للمستوردات الاستراتيجية ،، سيكون له أثر كبير في تحريك عجلة الإنتاج ،، وإعادة الحياة للمصانع المتوقفة ،، واستقطاب الاستثمارات الوطنية والخارجية ..
لا يمكن الحديث عن نهضة اقتصادية قائمة على الإنتاج دون الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين القطاع الزراعي والصناعات التحويلية ..
فالسودان بلد زراعي بامتياز ،، وتتنوع فيه المحاصيل التي يمكن أن تكون نواة لصناعات تحويلية ضخمة تسهم في خلق القيمة المضافة ،، وتقلل من تصدير المواد الخام دون استفادة حقيقية ..
ولعل ربط الزراعة بالصناعة هو الخطوة الذكية نحو بناء اقتصاد متكامل ،، لا يعتمد على مورد واحد ،، بل على سلسلة إنتاج تبدأ من الأرض وتنتهي بمنتج مصنّع قابل للتصدير أو الاستهلاك المحلي ..
وهنا تبرز أهمية المصارف المتخصصة المملوكة للدولة ،، مثل البنك الزراعي السوداني ومصرف التنمية الصناعية ،، باعتبارها الأذرع المالية التي يمكن أن تُموِّل هذه الحلقة الإنتاجية المتكاملة ..
فالدولة ،، عبر هذه المصارف ،، يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تمويل المشاريع الزراعية والصناعية معًا ،، وفق رؤية متكاملة تنقل السودان من اقتصاد المواد الخام إلى اقتصاد التصنيع ..
إن تفعيل هذا الربط بين الزراعة والصناعة ،، بدعم مصرفي ذكي وموجه ،، سيكون أحد المفاتيح الجوهرية للخروج من الأزمة ،، وتحقيق الاكتفاء الذاتي ،، وزيادة الصادرات ،، وتحفيز الإنتاج المحلي ..
إننا نناشد القائمين على أمر الدولة أن يجعلوا دعم الصناعة المحلية ضمن أولويات السياسات الاقتصادية القادمة ،، بل أن يعتبروها خياراً استراتيجياً لا يقبل التأجيل ..
يجب تخصيص محفظة تمويلية خاصة لدعم القطاع الصناعي ،، وتوجيه البنوك لتمويل المشاريع الإنتاجية ،، وتقديم حوافز ضريبية وجمركية ،، وتسهيل الإجراءات للمستثمرين في هذا القطاع الحيوي ..
كما نقترح وضع خطة وطنية عاجلة لتأهيل وتطوير المناطق الصناعية ،، وتحسين البنية التحتية ،، ودعم التدريب المهني والتقني ،، وبناء قاعدة بيانات دقيقة لاحتياجات الصناعة ،، وربطها بالبحث العلمي والجامعات ..
تشجيع المنتج المحلي مسؤولية الجميع ،، الدولة وحدها لا تكفي ..
فالمواطن أيضاً عليه دور في تبني خيار المنتج المحلي ،، وتفضيله على المستورد ،، إذا توفرت الجودة والسعر المناسب ..
وهنا يأتي دور الإعلام في تعزيز ثقافة “اصنع في السودان” ،، ودور القطاع الخاص في رفع كفاءة الإنتاج وتجويد المنتج ومراعاة الجودة والتغليف والتسويق ..
إن السودان يزخر بالموارد الطبيعية والبشرية ،، وما ينقصه هو الرؤية الواضحة ،، والإرادة الصادقة ،، والسياسات الذكية التي تُحسن استغلال ما نملك ..
ولعل بوابة الخروج من عنق الزجاجة تبدأ من إعادة الاعتبار للصناعة الوطنية ،، وتحفيز الإنتاج المحلي ،، وتمكين المصانع من العمل بكفاءة ..
فليكن هذا هو التوجه الجديد ،، الذي نراهن عليه لإنقاذ الاقتصاد الوطني ،، ولتبنِ الدولة اقتصادها من الداخل قبل أن تستجدي الخارج .. الإنتاج المحلي هو طريقنا للسيادة ،، وأملنا في النهوض .


