
بقلم/ عزمي علي بلة
(كاتب سوداني وروائي وقاص مقيم بالإمارات )
أجتهد أهل الاقتصاد كثيرا في تصنيف أشكال الاقتصاد. فالمتتبع لمؤتمرات منظمات الأمم المتحدة المختلفة والمنتديات الاقتصادية العالمية ومراكز الأبحاث العلمية في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين يجد ما يعينه بالفعل لفهم واختيار قراراته الاقتصادية.
كانت حصيلة هذه التصنيفات علبة ألوان متكاملة يمكن أن يستعين بها متخذ القرار في بلدنا ما بعد الحرب.
عندما تضع علبة الألوان هذه أمامك عليك أن تختار وفقا لما تتيحه مقومات البلد وقدراتها. فهناك الاقتصاد الأسود وهو كافة الأنشطة الخارجة عن القانون، والرمادي نسبة لوقوعه في منطقة بين الأبيض والأسود فربما تكون أنشطته مشروعة لكنها تتم خارج النظام الضريبي، بينما الاقتصاد البني هو ذاك الاقتصاد التقليدي الذي تعتمد فيه المصانع على الوقود الأحفوري ويعتبر ملوث للبيئة. وصنف الأحمر بسيطرة الدولة على كافة الأنشطة، والأصفر نسبة لأنظمة الطاقة الشمسية، والأخضر نسبة للأنشطة المستدامة صديقة البيئة مع استخدام عالي لنظام التدوير وإعادة الاستخدام يعني نشاط بلا نفايات، في حين يتمحور الاقتصاد الأزرق حول البحار والمحيطات سواء كان ذلك في إنتاج الكهرباء بطاقة الموج أو الغذاء من المنتجات البحرية أو السياحة والمنتجعات، بينما تتمحور مفاهيم الاقتصاد البنفسجي في الاهتمام بعمليات الإنتاج بالقيم الثقافية والهوية والقيم الإنسانية وليس التركيز على الربح فقط، ويركز الاقتصاد الفضي على احتياجات كبار السن حيث يمثلون نسبة معتبرة في بعض الدول. أما البرتقالي والأبيض فهما موضوع مقالنا اليوم.).
الاقتصاد البرتقالي أو الإبداعي وصف لاقتصادات جديدة، غير تقليدية، لا تستند فيها القيمة إلى الموارد القائمة على الأرض والعمالة ورأس المال، بل إلى الأنشطة الاقتصادية التي تقوم على استغلال المعارف والمعلومات، أو بالأحرى تلك الأنشطة التي تعتمد على توليد منتجات وخدمات من خلال استثمار المعرفة وتوظيف الإبداع والابتكار. يهتم هذا الاقتصاد بمجالات مثل الفنون (الموسيقى، السينما، المسرح، الرسم والتلوين والخط، النحت والزخرفة) التصميم (الجرافيكي، الصناعي، والداخلي) الإعلام (التلفزيون، الراديو، الصحافة) النشر (الكتب، المجلات، المحتوى الرقمي) التراث الثقافي (الحرف اليدوية، المواقع الأثرية، المأكولات التقليدية)
يُعتبر الاقتصاد البرتقالي وسيلة فعّالة لتعزيز وخلق فرص عمل خاصة في الدول التي تمتلك إرثاً ثقافياً غنياً وشباباً مبدعاً. يعني بالعربي الفصيح نحن في السودان نمتلك مقومات الاقتصاد البرتقالي ومتمكنون من أدواته وما على متخذ القرار غير أن يضرب بفرشاة قراراته ويحدد درجة البرتقالي التي يريد. وكما يشير بعض الباحثون بان أهم الوسائل لنجاح تجربة اقتصادية برتقالية هي القوانين المنظمة للابتكار والملكية الفكرية. وهذا موضوع محسوم لدينا بكنوزنا وعمالقتنا القانونيين فهم من نظم وصاغ قوانين العديد من الدول الأفريقية والعربية وحتى المنظمات الدولية تضم بين أروقتها العديد من القانونيين السودانيين.
وظهر مصطلح الاقتصاد البرتقالي في عام 2013، حين صدر كتاب “الاقتصاد البرتقالي: فرص لا حصر لها
The Orange Economy: An Infinite Opportunity
فهو من تأليف الكولمبيان فيليبي بوتشيكاردي وإيفان دوكي. ويمتلك السودان مقومات غنية جداً تؤهله ليكون فاعلاً في مجال الاقتصاد البرتقالي، رغم التحديات الاقتصادية والسياسية. وأبرز تلك المقومات، الإرث الثقافي والتنوع الإثني، فالسودان غني بثقافات متعددة، مملكة كوش العظيمة وما رسخته في الشخصية السودانية بتنوع ثقافاتها المحلية (عربية، نوبية، بجاوية، دارفورية، وغيرها)، وبناء على هذا التنوع يمتلك السودان تراثاً موسيقياً وشعرياً ضخماً، (طمبور، وازا، نقارة، ربابة الخ). . حيث نقف على قاعدة متميزة في مجالات الفنون والإبداع المتنوعة، ووجود عمالقة ومبدعين في مجالات الموسيقى، الرسم، النحت، والتصميم، المسرح، الشعر، القصة والرواية الخ من ضروب الإبداع. وعلاوة على ذلك فنحن دولة شابة ونمتلك الشباب والمواهب، حيث تتجاوز نسبة الشباب في مجتمعنا أكثر من 60%، ونقف على قاعدة من التعليم العالي في مجال الفنون والمجالات المساعدة له ونستطيع أن نلبي فرص التصدير الثقافي، ونستطيع تغطية الطلب الدولي على الحرف التقليدية، الموضة المستوحاة من الثقافة الإفريقية والعربية، والموسيقى الفلكلورية. يعني نمتلك مقومات الاقتصاد البرتقالي ونمسك بجميع الوسائل والأدوات الضامنة لنجاحه ولا ينقصنا غير شجاعة متخذ القرار والانفكاك من النظرات التقليدية والمحبطة للهمم بدعاوي لا يسندها منطق.
أما اللون الثاني من التشكيلة التي قصدتها في عنوان المقال وهو اللون الأبيض وسأتناوله وفقا للمنظور الإيطالي للتصنيف، حيث يختلف المصنفون في وصف الاقتصاد الأبيض. فهناك ثلاث تعريفات متفاوتة للاقتصاد الأبيض. حيث وصفه اغلب المهتمين بانه ضد الاقتصاد الأسود وعندما عرف الاقتصاد الأسود بانه كل الأنشطة الاقتصادية الخارجة عن القانون وتلك التي تمارس خارج مظلة القانون والضرائب. فكان تعريف الاقتصاد الأبيض بانه الاقتصاد القانوني النظامي الذي يلتزم بدفع الضريبة ويسير وفقا للمقبولية العامة ويفصح بشفافية عن كل شيء. بينما تم تعريف
الاقتصاد الأبيض : White Economy
عبر الاقتصادي DOUGLAS MCWILLIAMS في كتابه “الاقتصاد الأبيض المسطح،
وقد أوضح البروفيسور دوغلاس في كتابه الذي صدر في عام 2015 كيف يغير الاقتصاد الرقمي، لندن ومدن المستقبل، حيث ضاعف الاقتصاد الأبيض فرص العمل في لندن، وزاد من نموها بسرعة كبيرة، وخاصةً من خلال البيع والتسوق عبر الإنترنت، فالاقتصاد الأبيض بحسب منظور دوغلاس هو النظام الذي يحيط بصناعة تكنولوجيا المعلومات بمعناها الواسع. وعلى الرغم من أن التعريفين أعلاه للاقتصاد الأبيض ربما لا يختلفان كثيرا حيث يمكن اعتبار تعريف دوغلاس ضمن الأنشطة القانونية والمسجلة بصورة نظامية.
ولكني أجد نفسي متحيزا للتعريف الإيطالي الخاص للاقتصاد الأبيض ECONOMIA BIANCA ايكونوميا بيانكا في لغة الطليان. فهم يطلقون هذا اللون من الاقتصاد على قطاع الرعاية الصحية (طب، صيدلة، تمريض، مختبرات وخدمات رعاية صحية لكبار السن.. الخ من هذا النوع من الخدمات المقدمة. وبطبيعة الحال هذا نوع من الاقتصاد يناسبنا أن نتوسع فيه بحكم امتلاكنا لمقوماته. أذكر قبل بضع سنوات قرات بوست لاحد مواطني دول الخليج قال كنا في رحلة جوية من ماليزيا الى دولة خليجية، وتعرض أحد ركاب الطائرة لازمة صحية، وقام قائد الطائرة عبر الميكرفون يطلب من الركاب إذا كان بينهم طبيب فليتوجه الى درجة رجال الأعمال، فتوجه أكثر من تسعة أطباء سودانيين كانوا على متن الطائرة لتلبية نداء الكابتن. وقال هذا الخليجي إن الكابتن اختار أحدهم حسب التخصص وشكر الباقين لكن ظلت هذه اللحظة تثير أعجابي بالشعب السوداني. ومن هذه القصة تستطيع أن تعرف حجم المقدرة التي نمتلكها في الاقتصاد الأبيض حسب التوصيف الإيطالي، فقبل أن نؤسس بنية تحتية تستطيع جذب الناس للسياحة العلاجية فنحن نستطيع أن ننظم حركة كوادرنا بطريقة تجلب العملة الصعبة للبلد ودون أن نفرط في البنية الصلبة للقطاع.
يعني لو ركز متخذ القرار في حكومة اليوم التالي على ضربات فرشاته برتقالي بالأبيض فقط! يمكننا التقدم.
ولنا عودة.