
بقلم / أحمد يوسف التاي
(1)
لئن قلتُم إن الحرب التي يشتعل أوارها في السودان هي حرب شاذة وغريبة في كل شيء، إنكم إذاً لمن الصادقين. فهي حرب تافهة؛ بلا أخلاق، فكيف تنحاز إلى من هو بل أخلاق، وكيف تغض الطرف عن سوء خلقه… لا أزعم أن الجيش السوداني ومساندوه من المتطوعين هم ملائكة رحمة وبلا خطيئة، لكن يظل البون شاسعاً بين أخلاق القوات المسلحة السودانية في هذه الحرب، وأخلاق قوات الدعم السريع وسلوكها وجنوحها نحو تدمير المنشآت المدنية والمرافق الصحية، وتهجير المواطنين، واحتلال منازلهم، ونهب ممتلكاتهم مهما قلت أو كثرت..قوات الدعم السريع لم تترك مساحة تعاطف أو تأييد او قشة شفقة يتمسك بها غريق سقط في في جُب حبها..
(2)
قبل خروج الدعم السريع من بيوت المواطنين، كانت بعض الأصوات الحزبية التي لم تخف تعاطفها مع الدعم السريع تبرر لهذا الاحتلال والتشريد بأن هذه القوات اضطرت لاحتلال بيوت المواطنين وتهجيرهم منها قسراً؛ دفاعاً عن نفسها لكي تتقي الضربات الجوية وحتى لا تُباد. الآن، قوات الدعم السريع خرجت من منازل المواطنين في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار وامنت على نفسها، لكنها لا تزال تعمد إلى إيذاء المواطن باستهداف المنشآت المدنية والمرافق الصحية من محطات كهرباء ومستشفيات ومراكز صحية ومحطات مياه.
(3)
دعك عن الاستهداف المتواصل لسد مروي والمطارات في ولايتي الشمالية ونهر النيل، ومحطات الكهرباء في ولايات كسلا، القضارف، الشمالية، نهر النيل، والنيل الأبيض. دعكم من كل ذلك وانظروا فقط إلى المحولات ومحطات الكهرباء في كل منطقة أو مدينة وصلتها قوات الدعم السريع. ستجدون أن القاسم المشترك في كل المناطق هو خرق مستودعات زيت الكهرباء ونهبه، وتدمير شامل للمحولات، وسرقة كيبلات النحاس. لو أن أي شخص تمعن حجم الخراب والدمار الذي طال قطاع الكهرباء فقط، لأدرك أن حجم المأساة أكبر مما تتصوره العقول. فالكهرباء ليست ترفاً، وإنما هي حياة. فإذا قطعتَ عن مدينة الكهرباء، إنما أمسكتَ عنها الهواء الذي تتنفسه والماء الذي تشربه. وعلى ذلك قس.
(4)
إذا تجاوزنا تهجير المواطن من بيته ونهب ممتلكاته، وتدمير مقتنيات الأسر، وسرقة حصاد عمرها في رمشة عين، وإفقارها على نحو متعمد، واعتبرناه (انفلاتاً عادياً) أو (شفشفة بسيطة) كما يعمدون إلى التقليل من شأن ما حدث، فإن تدمير المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية والخدمية ومحطات الكهرباء والمنشآت المدنية على هذا النحو يفضح أي سوداني يمتلك وجداناً سليماً وعقلاً سوياً لم تحدثه نفسه برفع صوته لإدانة هذا الجرم الكبير والاستهداف المتواصل وغير المبرر لمواطنين عُزل ما نقموا إلا أنهم سودانيون أبرياء لا ناقة لهم ولا بعير في صراعات السلطة وصناعة الميليشيات وافتعال الحروب.
(5)
في قريتنا الصغيرة، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا مركز صحي، بل مدرسة ابتدائية غير مكتملة ومسجد صغير شيده أحد الخيرين، صادفتُ عناصر من الدعم السريع يقتحمون القرية بعربات قتالية ومواتر. وبعد أن سطوا على سيارات نازحين كانوا بالقرية، تحاور معهم بعض المواطنين حول أوضاعهم وعوزهم وفقرهم فكانت الإجابة : (هسي انتو تقولو مساكين، عاين عندكم مسجد سمح زي دا، وتشربو موية سمحة وصافية).
والماء التي يقصدونها (ماء كرجاكة) وهي مياه سطحية تُستخرج بالمضخات وذات رائحة كريهة وغير صحية، ومع ذلك كانوا يستكثرونها علينا. قال أحدهم: (برضو تقولو مساكين، عاين مويتكم صافية، نحنا هناك أهلنا يشربوها عكرانة، وشوف مسجدكم سمح كيف، نحنا هناك في البلد ما عندنا زي دا).
عندما أتذكر هذا الحوار مع بعض ناس القرية، لم أجد صعوبة في فهم خطاب حميدتي الذي زل فيه لسانه حينما تعرض لبعض المكونات القبلية في الشمال، وهو الخطاب الذي انتقده وزير الإعلام السابق الأستاذ فيصل محمد صالح بشدة على إحدى القنوات.
(6)
أعود وأقول إن الحرب الحالية، ومهما كانت أوصافها وأهدافها ومبرراتها وأسبابها، فإنها اليوم قد جنحت، وبدون مواربة، على نحوٍ جهويٍّ عنصريٍّ من شأنه أن يدمر ما تبقى من الوطن الجريح إن لم يتحرك عقلاء السودان إن كان فيهم بقية. اللهم هذا قسمي فيما أملك.
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.