مقالات الرأي

حين تتوه العدالة في ركام الحرب… هل من سبيل لاستردادها؟

5Ws-service

بقلم الطيب مضوي شيقوق

(محامي_ ومستشار قانوني)

وجهة نظر إلى اللجنة العدلية العليا برئاسة مولانا منير محمد الحسن

ليست الحرب دمارًا للعمران فقط، بل كثيرًا ما تمتد أذرعها إلى العدالة ذاتها، فتُعطّل ميزانها، وتبعثر أوراقها، وتُفقد المؤسسات روحها وذاكرتها. وفي السودان، حيث تشهد البلاد واحدة من أشد محطّاتها التاريخية قسوة، لم تسلم المحاكم من هذا المصير، فتعطّلت جلسات، واحترقت ملفات، وضاعت محاضر، ووجدت العدالة نفسها أمام سؤال وجودي: كيف نُنقذ ما تبقى؟

من بين الملفات المفقودة، ما لا يزال قائماً في الذاكرة القضائية الشفهية، ومنها ما بلغ أعلى درجات التقاضي، وأصبح قاب قوسين من الإحالة للمحكمة الدستورية، لكنه اليوم في حكم المعدوم إجرائيًا. فهل تُطوى هذه القضايا ويُلقى بها جانبًا لغياب الشكل؟ قطعًا لا. لأن جوهر العدالة لا ينبغي أن يكون أسيرًا للورق، بل يجب أن يكون أكبر من الشكل، وأعمق من الإجراء.

في هذا السياق، نتوجه بثقة وأمل إلى اللجنة العدلية العليا برئاسة مولانا منير محمد الحسن، نائب رئيس القضاء، والتي أوكلت إليها مهمة تاريخية بحق: إعادة ترميم البناء العدلي في بلد تتقاذفه الرياح من كل صوب. وهذه اللجنة، بما حُفِظ عنها من حكمة وتجرد، وما عُرف عن أعضائها من مهنية، تمثل اليوم الأمل الذي يمكن أن يُعيد لهذه القضايا روحها وحقّها في الحياة.

ليس المطلوب معجزة، بل مقاربة قانونية استثنائية توازي حجم الكارثة:

أولاً، لا بد من الاعتراف بأن ما جرى يمثل “قوة قاهرة” بكل ما تعنيه الكلمة قانونًا وواقعًا. وعليه، فإن القواعد الإجرائية التي تشترط وجود الملف المادي بكامل وثائقه، يجب أن تُراجع عند التطبيق، لصالح حفظ الحقوق وضمان المحاكمة العادلة.

ثانيًا، يمكن التفكير في آلية لإعادة تشكيل الملفات، تبدأ باستدعاء أطراف الدعوى، وما يحتفظون به من نسخ أو مستندات، إلى جانب مراجعة ما لدى النيابة العامة أو أجهزة الضبط أو المحامين. وربما تشكل اللجنة العدلية فرقًا متخصصة تُعيد بناء “ملف افتراضي” معتمد، يتم العمل عليه قانونًا.

ثالثًا، في القضايا التي سبق صدور حكم نهائي فيها، خاصة تلك التي وصلت إلى المحكمة العليا، فإن اعتماد النسخ المتاحة أو نشرات الأحكام، كوثائق رسمية كافية، يمكن أن يُتيح للمحكمة الدستورية ممارسة دورها دون انتظار “ملف كامل”.

ورابعًا، في الحالات التي يتعذّر فيها الوصول إلى الحد الأدنى من المعطيات، يمكن النظر، بجرأة قانونية مسؤولة، في إعادة المحاكمة، خاصة في القضايا الجنائية التي تمسّ الحرية أو الحياة.

أما التوصية الكبرى، التي لا يمكن تجاوزها، فهي: ضرورة الانتقال السريع إلى نظام رقمي متكامل لأرشفة القضايا، يعتمد على التخزين السحابي، ويوزّع قواعد البيانات بين أكثر من مركز، بما يضمن استمرارية العمل القضائي في وجه الأزمات.

في المحصلة، هذه الحرب لن تكون نهاية العدالة، إذا ما وُجدت إرادة صادقة، ومؤسسات تقودها عقول حرة وقلوب مؤمنة برسالة القضاء. واللجنة العدلية العليا، كما نراها اليوم، تملك من الكفاءة والشرعية والخيال القانوني، ما يؤهلها لأن تصنع من هذه الأزمة بداية جديدة، لا مجرد معالجة مؤقتة.

فليكن هذا الخراب الذي طال الملفات، سببًا في إصلاح أعمق… ولتكن هذه المحنة، جسرًا يُعيد للعدالة السودانية بريقها، لا مرثية تُكتب في ذاكرتها.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى