مقالات الرأي

حين تصبح الحقيقة هشّة… والإعلام يسقط أحجار الدومينو

5Ws-service

بقلم المستشار القانوني / الطيب مضوي شيقوق

في منتصف القرن العشرين، وبالتحديد في عام 1954، أطلق الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور تحذيرًا صارمًا للعالم من خطورة سقوط فيتنام في قبضة الشيوعية. رأى أيزنهاور أن هذا الحدث يمكن أن يفتح الباب لانهيار متسلسل في مناطق أخرى، حيث “تسقط أحجار الدومينو” واحدة تلو الأخرى. كان هذا التحليل بمثابة تأسيس لنظرية الدومينو، التي فرضت نفسها كأداة لفهم الصراعات الجيوسياسية في فترة الحرب الباردة.

ومع مرور الوقت، لم تبقَ نظرية الدومينو محصورة في صراع الأيديولوجيات الكبرى، بل توسعت لتصبح نموذجًا لفهم كيفية انهيار الأنظمة بشكل عام، وكيف يمكن أن تؤثر الأحداث المحلية في انهيار أنظمة أخرى في أماكن متباعدة. لقد ظهر جليًا أن هذا السقوط ليس مجرد نتيجة لصراع مباشر، بل أيضًا نتيجة لتراكم عوامل داخلية وخارجية، تتناغم مع التحولات الاجتماعية والسياسية في العصر الحديث.

الإعلام… أداة التأثير وسقوط الأحجار

تزامن صعود الإعلام كأداة مؤثرة في القرنين الماضيين مع تحول نظرية الدومينو إلى نموذج شامل لفهم العالم المعاصر. ففي فترات سابقة، كانت الأحداث السياسية الكبرى تتفاعل ببطء، فالأخبار كانت تنتقل ببطء عبر الصحف، وإذا حدثت تغييرات جذرية، كانت تحتاج إلى وقت طويل حتى تترسخ وتؤثر على الرأي العام. لكن في عصرنا الراهن، التاريخ يُكتب بسرعة الضوء، حيث تُبث الصور والأخبار لحظيًا عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، مما يجعل السقوط السياسي أو الاجتماعي أكثر تسارعًا.

اليوم، أصبح الإعلام قوة قادرة على دفع أحجار الدومينو، سواء من خلال نشرة إخبارية أو تغريدة على تويتر أو حتى صورة غير موثوقة تُنشر عبر الإنترنت. فالعالم اليوم يشهد تسارعًا في انهيار الأنظمة بسبب الصورة التي تنتشر بشكل سريع، ما يجعل من الإعلام، سواء كان تقليديًا أو حديثًا، أداة فعالة لإشعال الفوضى وإحداث التأثيرات العميقة على المجتمعات والأنظمة.

 

الربيع العربي: اللحظة التي سقطت فيها الأحجار

بينما كانت نظرية الدومينو تشرح انهيار الأنظمة في سياق الحرب الباردة، شهدنا في السنوات الأخيرة شكلًا جديدًا لهذه النظرية في منطقتنا العربية. بدأ الربيع العربي في تونس، حين أشعل محمد البوعزيزي نفسه في احتجاج ضد الظلم، لكن الصورة التي تم التقاطها لم تكن مجرد مشهد عاطفي، بل كانت شرارةً لحركة شعبية جارفة. هذه الصورة لم تُبث في تونس فقط، بل انتشرت بسرعة عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، مما أدى إلى تحول مفاجئ في المشهد السياسي العربي.

الصورة كانت البداية، والهاشتاقات مثل #ارحل و#جمعة_الغضب لعبت دورًا في توحيد الرؤى وإطلاق موجة جديدة من التحركات.

الإعلام البديل، الذي تحوّل من كون الإعلام الرسمي المهيمن إلى منصات التواصل الاجتماعي، لعب دورًا كبيرًا في تحفيز الجماهير، وخلق مشهد جديد من التضامن الرقمي.

هكذا، سقطت أحجار الدومينو في مصر، ثم ليبيا، ثم سوريا، ولم يكن السقوط متزامنًا تمامًا، بل جرى تحت تأثير الإعلام الذي ينقل اللحظة إلى مرحلة أخرى.

تأثير نظرية الدومينو في ثورة 19 ديسمبر السودانية

في السودان، ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بدأ المواطنون في الاحتجاج ضد نظام الرئيس عمر البشير. ومع بداية الاحتجاجات في 19 ديسمبر 2018، كانت الأرض قد أُعدّت مسبقًا بسلسلة من الأزمات الاقتصادية، مثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وزيادة التضخم، ونقص الوقود، ما أشعل فتيل الغضب الشعبي. ولكن ما جعل هذه الاحتجاجات تتحول إلى ثورة شعبية كان تأثير نظرية الدومينو الذي امتد من احتجاجات المنطقة العربية.

لم تكن بداية الاحتجاجات في السودان حالة فريدة أو معزولة، بل كانت امتدادًا طبيعيًا لما حدث في دول مثل تونس ومصر. عندما شاهد السودانيون صورة الثورة التي أسقطت الأنظمة العربية الأخرى عبر الإعلام البديل، شعروا أن هناك إمكانية للتغيير، وأن ما يحدث في هذه البلدان يمكن أن يحدث في السودان أيضًا.

إعلام التواصل الاجتماعي لعب دورًا محوريًا في تنشيط الوعي الشعبي وتوحيد الحشود.

الهاشتاقات مثل #تسقط_بس و#الموت_ولا_الذل كانت بمثابة الشعلة التي أوقدت النيران، وتحولت إلى مظاهرات عارمة تَسَيّدت شوارع المدن السودانية.

وفي هذا السياق، سقطت أحجار الدومينو واحدة تلو الأخرى، حتى وصلت إلى الإطاحة بحكومة البشير في أبريل 2019، ليكتمل المشهد الثوري الذي امتد عبر عدة أجيال من الاحتجاجات الشعبية، مستفيدًا من دروس الربيع العربي، وتفاعلات الإعلام الحديث، ومن تضافر الجهود الشعبية.

الإعلام في العصر الرقمي: من السلطة الرابعة إلى مطرقة الدومينو.

لقد تحوّلت وسائل الإعلام في العصر الحديث من كونها “السلطة الرابعة” التي تراقب وتتحقق من الأخبار، إلى أداة تعبئة وحشد في أيدي الأفراد والجماعات. كانت الصحافة في الماضي تمثل مؤسسات مهنية تتحكم في نقل المعلومة، لكن اليوم أصبح بمقدور أي شخص أن ينشر خبرًا أو صورة تقلب موازين الرأي العام.

وسائل التواصل الاجتماعي لم تُحرّر الإعلام من الرقابة فحسب، بل جلبت معها ظاهرة المعلومات المضللة والـ”فايك نيوز”، مما جعل من السهل إشعال حروب نفسية أو اجتماعية في فترات زمنية قصيرة. فالزمن الذي كان يحتاج فيه العالم أشهرًا لإحداث تغيير سياسي أو اجتماعي، أصبح في الزمن الرقمي لا يتعدى عدة ساعات أو أيام.

اليوم، أصبح الإعلام هو الميدان الذي تتساقط فيه أحجار الدومينو، وكل صورة مفبركة أو تغريدة مثيرة هي بمثابة حجر قد يطيح بأمة بأسرها.

 

ما العمل؟

إزاء هذا التسارع والانهيار المتواصل، لا تكفي الشعارات الجوفاء أو الحماسة العاطفية لإيقاف السقوط. بل يجب أن نعمل على:

إعلام بديل رشيد يعيد للخبر مصداقيته ويستعيد دور الإعلام كأداة للحقيقة لا للتحريض.

وعي جمعي يشمل كل أطياف المجتمع، يضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبار شخصي أو حزبي.

حوار شجاع يقبل التعددية ويدرك حقيقة أن أي انقسام داخلي سيعني تفعيل نظرية الدومينو التي لا تفرق بين طرف وآخر

خاتمة:

لقد أظهرت أحداث الربيع العربي، وكذلك الأزمات التي عاشتها دول مثل فيتنام، كيف يمكن لتأثير واحد، حتى لو كان بسيطًا، أن يؤدي إلى انهيار متسلسل. لكن هذا ليس قدرًا محتومًا. الإعلام، كما هو سلاح قوي للبناء، يمكن أن يصبح سلاحًا للدمار إذا تم استخدامه دون ضوابط أو مسؤولية.

الرهان اليوم ليس على تجنب وقوع الحجارة، بل على إعادة ترتيب الأحجار بحيث لا تصبح الفوضى هي النتيجة الوحيدة. والوقت قد حان لنُعيد التفكير في كيفية حماية الحقيقة قبل أن تتحول إلى جزء من الفوضى.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى