
بقلم/ الطيب مضوي شيقوق
(كاتب_ محامي _ مستشار قانوني)
في عام 2022، بثّت منصة “نتفليكس” الفيلم الوثائقي الصادم Our Father، والذي لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل بمثابة صفعة على وجه الضمير الطبي العالمي. يروي الفيلم القصة الحقيقية للطبيب الأمريكي دونالد كلاين، أخصائي الخصوبة في ولاية إنديانا، الذي مارس فعلًا أقرب للخيال: استخدم نطفته الشخصية لتلقيح العشرات من النساء اللاتي قصدنه مع أزواجهن من أجل تحقيق حلم الأمومة، دون علم أيٍّ منهن، ودون موافقة أيٍّ من الأزواج.
بداية الخيط: حمض نووي يفضح كل شيء
بدأت القصة عندما قامت فتاة تُدعى جاكوبي بالارد بإجراء فحص DNA منزلي بدافع الفضول، لتكتشف صدمة كبرى: لديها إخوة غير أشقاء كُثر! ومع توالي التحاليل وتقاطعات البيانات، تبيّن أن الأب البيولوجي لجميع هؤلاء الإخوة هو الطبيب نفسه، الذي يُفترض أنه كان يحقن المرضى بنطفة من “متبرع مجهول”، لا أن يكون هو المتبرع سرًّا.
القانون… عاجز أمام وحشية الفعل
رغم بشاعة الجريمة أخلاقيًا، فإن النظام القانوني في ولاية إنديانا وقتها لم يكن يتضمّن نصًا صريحًا يُجرّم هذا النوع من الأفعال. فحتى وإن كانت النتيجة خيانة للثقة وخداعًا جسيمًا، إلا أن النيابة واجهت صعوبات حقيقية في تكييف الفعل جنائيًا.
الضحايا وجدوا أنفسهم في مواجهة نظام قانوني بلا أنياب، يُفرّق بين الجريمة القانونية والجريمة الأخلاقية. ومع تصاعد الغضب الشعبي، اضطر المشرّعون في الولاية إلى إقرار قانون جديد يُجرّم استخدام المادة الوراثية دون موافقة صريحة، لكن بعد أن كانت الجريمة قد وقعت… وانتهكت الخصوصيات، وخلطت الأنساب.
خرق فاضح للثقة والموافقة
من منظور قانوني، يُعد ما فعله الطبيب خرقًا فادحًا لـ:
مبدأ الموافقة المستنيرة: وهو من أعمدة الممارسة الطبية السليمة، ويشترط أن يُوقّع المريض على إجراء طبي وهو على علم بكافة تفاصيله ومخاطره.
عقد الثقة بين الطبيب والمريض: وهو عقد ضمني يقوم على الأمانة المطلقة. استبدال النطفة من متبرع إلى الطبيب دون علم المرضى يُعد تدليسًا وجرمًا تعاقديًا وأخلاقيًا.
الحق في معرفة النسب البيولوجي: وهو حق أصيل للإنسان، أقرّته عدة اتفاقيات دولية، وانتهاكه يُعد تعدّيًا على هوية الفرد.
اغتصاب بالتضليل؟
أثار الفعل جدلًا قانونيًا حول إمكانية تصنيفه ضمن حالات “الاغتصاب بالتدليس”، رغم غياب الاتصال الجنسي المباشر. فإدخال سائل منوي في رحم امرأة دون علمها من طرف رجل آخر (هو الطبيب) يُمكن تكييفه في بعض القوانين الحديثة على أنه نوع من الاعتداء الجنسي غير المباشر.
الشريعة الإسلامية: وضوح مبكر وتشديد حازم
في حين تردد القانون المدني في إدراك حجم الجريمة، كانت الشريعة الإسلامية منذ قرون قد وضعت خطوطًا حمراء واضحة في مسائل الأنساب والأعراض والذرية. وتتلخص المواقف الشرعية فيما يلي:
1. تحريم التلقيح من طرف ثالث
الإسلام يمنع أي تلقيح صناعي يكون أحد طرفيه غير الزوج، حفاظًا على نقاء النسب، وصونًا للروابط الأسرية. قال النبي ﷺ: “من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام”.
2. اعتبار التلقيح الخفي انتهاكًا للعرض
إدخال نطفة شخص آخر دون علم الزوجة أو الزوج، يُعد في الشريعة فعلًا فاحشًا يقارب الزنا في تدليسه وأثره، ويستحق العقوبة التعزيرية المغلظة.
3. النسب لا يُلحق لا بالطبيب ولا بالزوج
الطفل الناتج لا يُنسب للطبيب قطعًا، ولا للزوج إن لم يعلم، بل يُعامل شرعًا معاملة اللقيط، مع وجوب كفالته وضمان كامل حقوقه الإنسانية.
4. عقوبات صارمة
الشريعة لا تكتفي بالإدانة الأخلاقية، بل تفرض:
الجلد أو السجن
المنع من ممارسة المهنة
التشهير العام
التعويض المادي والمعنوي للضحايا
بين الشريعة والقانون… تباعد وتكامل
تكشف هذه القضية عن ثغرة عميقة في المنظومات القانونية الحديثة، التي كثيرًا ما تتأخر في مواكبة تعقيدات الواقع. بينما نجد أن الشريعة الإسلامية، رغم قدمها، تسبق القانون في حماية العرض والنسب والكرامة.
وفي النهاية، فإن القانون والشريعة يتفقان على إدانة الفعل من حيث المبدأ، لكنهما يختلفان في وسائل التجريم والتعويض والعقوبة. وإذا كانت هذه الجريمة قد دفعت القانون الأمريكي للتدارك، فهي تذكرنا أيضًا بأن المعايير الأخلاقية يجب أن تكون أسبق من التشريع، وأقوى من نصوصه.
كلمة أخيرة
ما حدث في فيلم “أبونا” ليس مجرد انتهاك فردي، بل جريمة جماعية صامتة تواطأ على استمرارها الغياب القانوني، وتقصير الرقابة، وخيانة الضمير.