بقلم /الخبير الاقتصادي مكى ميرغنى عثمان- ” وكيل وزارة المالية السابق”
صدرت فى النصف الاول من يناير 2025 بيانات الجهاز المركزى للاحصاء – حول معدلات التضخم عن العام 2024 . حسب البيانات فقد بلغ معدل التضخم السنوي 187.83% للعام 2024. بحساب بسيط منذ العام 2021 الذى وصل فيه معدل التضخم اعلى معدلاته 358% ومع زيادة معدلات التضخم فى 2022 – 2023 – ان كان بوتيرة اقل – يكون ملايين من المواطنين قد دخلوا دائرة الفقر المدقع. طبعا معدلات الفقر و مهددات المعيشة لا تقتصر على ارتفاع معدلات التضخم وحدها فهناك تداعيات الحرب التى أوقفت الإنتاج ونهبت مقتنياتهم ودمرت البنيات التحتية وعطلت الخدمات الاجتماعية.
قد يذكر البعض ان صندوق النقد الدولى كان يتوقع ان تتراجع معدلات التضخم فى العام 2023 الى 76.9% من 164.9% فى 2022 خاصة بعد اجازة وانطلاقة برنامج الاصلاح الاقتصادى الذى يراقبه الصندوق وكذلك استقرار سعر الصرف وقد تحقق ذلك لحد ما – والاتفاق على خارطة طريق لمعالجة المديونية الخارجية وقبلها ازالة اسم السودان من قائمة ما يسمى الدول الراعية للارهاب والتزامات اصدقاء السودان بعد مؤتمرات برلين وباريس والرياض, لكن الحرب هزمت كل التوقعات.؟!!
بصفة عامة فقد سبق تدهور الاقتصاد اندلاع الحرب فقد كان منكمشا حيث بدأ فى التدهور منذ 2018 حيث عكست معدلات الناتج المحلى الاجمالى معدلات نمو سالبة بنسبة 2.3% لأول مرة وتوالت المعدلات السالبة لنمو الناتج المحلى الاجمالى حتى 2022 بنسبة أقل من 5% فى المتوسط حسب البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزى للاحصاء، وبالطبع تزايدت معدلات انحسار حجم الناتج المحلى الاجمالى فى عامى الحرب ويقدر ان تآكل حجم الناتج المحلى الاجمالى قد يصل الى 36% وهذه نسبة عالية مقارنة ببعض الدول التى تعرضت لحروب ومنها سوريا (20%).
ادراكا للتحديات الماثلة وذكرنا منها انحسار معدلات النمو وارتفاع معدلات التضخم وسعر الصرف) ، لا يتوقع أن يحقق السودان معدلات نمو ايجابية الا بعد أن تتم معالجة تداعيات الحرب التى لامست كافة القطاعات الاقتصادية و هذا قد يحتاج لفترة 5 سنوات على الأقل هذا اذا سلمنا ان معدلات تجريف الناتج المحلى الاجمالى صحيحة – والتى أرى انها قد تكون أكثر من ذلك. اضافة لانحسار الرصيد الرأسمالى للدولة والقطاع الخاص والمصرفى- الذى يشمل البنيات الأساسية – فقد طاله التدمير والخراب و السرقة والذى يقدر بحوالى 150 مليار دولار ، وتقدر دوائر اقتصادية مطلعة خسائر الاقتصاد السودانى بسببب الحرب بحولى 250 مليار دولار. لقد فشلنا فى اعداد خطة لادارة اقتصاد الحرب وآمل أن لا نفشل فى اعداد خطة وبرنامج لاحتواء وتجاوز آثار هذه الحرب المدمرة فى الوقت المناسب.
يواجه الشعب السودانى الذى يعيش 20% منه فى مناطق النزوح واللجوء تحديات كبيرة، حيت تعذر على ملايين الاسر خاصة الفقيرة وذوى الدخل المحدود – قطاعات واسعة منهم المعلمون لم يتلقوا مرتباتهم بانتظام – توفير الحد الادنى لإعاشة اسرهم فى مناطق النزوح. حسب تقارير رسمية فإن 25% من السكان يواجهون المجاعة. وينداح على ذلك اثار كارثية منها ارتفاع معدلات وفيات الاطفال والامهات وانتشار الأمراض المعدية كالكوليرا والملاريا و أمراض الاطفال وسوء التغذية وظهور حالات التقزم بينهم.
بعد رميتنا هذه الخاصة بتواتر زيادة بمعدلات التضخم وتدهور الاقتصاد وزيادة معدلات الفقر نختم برصد اهم ترتيبات تنفيذ مهام مرحلة ما بعد الحرب وهى إعادة إعمار ما خربته هذه الحرب والخطوات الكفيلة بانجاحها وهى باختصار كما يلى:
أولا: نحتاج لحكومة مدنية مسؤولة كما يقول المانحون “ذات مصداقية” تجد قبولا واسعا من الشعب السودانى ودعما من المجتمع الدولى تستقطب لها الكفاءات والخبرات من كافة قطاعات الشعب السودانى. شريطة أن تعمل هذه الحكومة فى اطار قانونى شامل (دستور) و تقود مؤسسات فاعلة .
ثانيا: اعداد وتصميم وإجازة وتنفيذ برنامج اصلاح اقتصادى متكامل متوسط المدى (3-5 سنوات) واخضاعه لمشاورات واسعة قبل اجازته. يشمل خطوات جادة لمعالجة الاختلالات والتحديات التى واجهها الاقتصاد السودانى وتعاظمت بسبب الحرب.
ثالثا: الانخراط فى ترتيبات بعثة لتقييم الاحتياجات لإعادة الإعمار لما خربته الحرب و من الممكن أن تكون مشتركة مع المانحين. ومن ثم اعداد خطة وبرنامج قومى لاعادة الاعمار و التنمية المتوازنة المستدامة.
رابعا: انشاء صندوق قومى لإعادة اعمار ما خربته الحرب لاستقطاب الدعم الوطنى و الخارجى لتمويل مشاريع برنامج إعادة الإعمار بالتنسيق مع وزارة المالية والتخطيط الاقتصادى بالتعاون مع المانحين .وتشمل مهام الصندوق اعلان نفرة قومية من قبل قيادة الحكومة لحشد الموارد المالية من المواطنين والقطاع الخاص للبرنامج القومى لإعادة الإعمار والتنمية.
خامسا: انشاء وحدة تنفيذية مستقلة يتراسها تكنوقراط واسناد مهمة الاشراف على تنفيذ برنامج إعادة الإعمار لها بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة بالمركز والولايات – حتى لا نقع فى بيروقراطية التنفيذ – وتعمل الوحدة التنفيذىة بالتنسيق المحكم والتعاون المستمر مع الوزارات والولايات والجهات المختصة. ويتم استقطاب الخبرات والكفاءات الوطنية لها عبر اجراءات شفافة بما يشمل الانتداب من أجهزة الخدمة العامة. للسودان تجربة سابقة فى هذا المجال.
سادسا: اعمال اليات الحكم الراشد والقانون ومحاربة الفساد وفق حزمة قوانين متكاملة والاستخدام الأمثل للبيانات فى الخطط والبرامج واستصحاب تحقيق اهداف التنمية المتوازنة و المستدامة و الاهتمام بتعزيز قدرات الأجهزة الحكومية فى المركز والولايات.
سابعا: اجراء التعداد السكانى واجراء المسوحات الاجتماعية ومنها المسح الخاص بالهجرة القصرية والنزوح بسبب الحرب.
ثامنا: استقطاب الخبرات و الكفاءات الوطنية الراسخة للمساهمة فى تنفيذ برامج اعادة الاعمار وتعزيز القدرات الادارية التنفيذية والفنية بالمركز والولايات.
تاسعا: تعزيز الشراكة مع المانحين لتوفير التمويل اللازم لمكونات برنامج اعادة الاعمار كافة بما يشمل التعداد السكانى والمسوحات الاجتماعية. فقد ابرزت الحرب تدميرا ممنهجا للبنيات التحتية وأدت لانكماش الاقتصاد بصورة كبيرة مما يفوق قدرات الحكومة المالية.
نتطلع ان تقف الحرب ونثق ان الشعب السودانى سيصمد وينطلق نحو تنفيذ برامج اعادة الاعمار والتنمية عبر نفير وطنى فى إطار برنامج نهضوى متفق عليه تحرك له الموارد البشرية والمالية المحلية والدعم الخارجى من أصدقاء السودان شريطة توفر الإرادة السياسية لحكومة ذات مصداقية وكفاءة تزخر بكوادر وطنية مخلصة ولها خبرات راسخة واهم من ذلك تنال ثقة الشعب السودانى ودعم المجتمع الدولى.