بقلم/ العميد الركن مهندس بحري “م” صلاح الدين محمد احمد كرار
مؤتمر اللاءات الثلاثة في الخرطوم ٢٩ اغسطس ١٩٦٧:
تحدثنا في الحلقة الاولي عن احد مواقف الرئيس الراحل جعفر نميري مع الشيخ الصباح امير الكويت .
اليوم نتناول حادثا مهما في تاريخ الامة العربية ، كان المبادر والمستضيف فيه هو السودان .
الا وهو مؤتمر اللاءات الثلاثة ( لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات مع اسرائيل ) ذلك المؤتمر الذي انعقد في الخرطوم في ٢٩ اغسطس ١٩٦٧ بعد ما سمي بالنكسة او هزيمة ١٩٦٧ في مصر .
مصدر هذه المعلومات هو برنامج اسماء في حياتنا الذي قدمه الاستاذ عمر الجزلي مع المرحوم الاستاذ مامون سناده المحامي والقطب الاتحادي . و ايضا نقلا عن بعض الشخصيات التي كنت لصيقا بها ومنهم الاستاذ عز الدين السيد القطب الاتحادي رحمهم الله جميعا .
ذكر الاستاذ مامون سناده في ذلك البرنامج ان مصر عبد الناصر كانت تمر بظروف سياسية صعبة بعد انتكاسة ١٩٦٧ حيث تدمر اغلب الطيران الحربي وبدا الاتحاد السوفيتي يتلكأ في تزويد مصر باسلحة جديدة .
كما ان قناة السويس قد اغلقت بعد احتلال اسرائيل للجزء الشرقي من قناة السويس وبذلك فقدت مصر اهم مواردها الاقتصادية .
لعله من المفيد ان نذكر هنا اهم اسباب انتكاسة ١٩٦٧ وتتلخص في الاتي :-
١ . وقع انقلاب في اليمن قام به اللواء عبدالله السلال في ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢ . وقد ايدت ودعمت مصر هذا الانقلاب بل وارسلت قوات مصرية لمحاربة انصار الامام البدر الذي تولي السلطة في اليمن من والده الامام احمد قبل اسبوع من قيام الانقلاب .
كما يري كثير ممن كتبوا عن حرب مصر في اليمن ، انها كانت خطأ كبيرا لاسباب عدة منها ان الجيش المصري لم يكن مهيا للحرب في الاراضي الجبلية و حرب المدن بينما كان انصار الامام البدر يحاربون في ارض يعرفونها وهي ارض صديقة .
ايضا كانت التكلفة المالية عالية حيث قدرت بنصف مليون دولار يوميا والتكلفة البشرية قدرت بخمسة عشر الف قتيل من الجيش المصري .
بما ان المملكة العربية السعودية تربطها حدود من جهه الجنوب مع اليمن فكان لابد لها ان تدعم القوات التي تحارب مع انصار الامام البدر ، واصلا كانت العلاقه بين السعودية ونظام عبد الناصر لم تكن علي ما يرام .
ادي كل ذلك الي توتر العلاقة بين كل من الملك فيصل طيب الله وجمال عبد الناصر طيب الله، ثراهما قبل قيام حرب يونيو ١٩٦٧ .
ذكر الاستاذ مامون انه في ظل ذلك الوضع تفاكر كل من الزعيم الازهري والسيد محمد احمد محجوب حول ماذا يمكن ان نفعل .
استقر الراي انه لابد للسودان ان يبادر بعقد مؤتمر للصلح بين الملك فيصل وجمال عبد الناصر .
اتفقا بان يذهب الزعيم الازهري الي عبد الناصر وان يتولي المحجوب اقناع صديقه الملك فيصل بحضور المؤتمر ، والذين كان بينهما صداقة منذ ان كانا وزيري خارجية للبلدين في الخمسينات .
و ذكر الاستاذ مامون ان المحجوب كان ينادي الملك فيصل ب( يا ابا عبد الله وهو الشاعر الاديب عبدالله الفيصل )
وكان الملك فيصل ينادي المحجوب ب( ابو سامي ) . واستمرت هذه العلاقه حتي بعد تولي الملك فيصل حكم المملكة.
واتفق المحجوب والازهري علي ان يظل الامر سريا في اضيق حدود حتي لا تفشل المهمة .
كانت مهمة المحجوب هي الاصعب للغضب الشديد الذي كان يسيطر علي الملك فيصل من الهجوم الاعلامي المصري علي المملكة ومليكها قبل حرب ١٩٦٧ .
ومن جيلنا من لايذكر هجوم المذيع احمد سعيد اليومي من اذاعة صوت العرب علي المملكة ووصفها بالرجعية .
طلب المحجوب عبر القنوات الدبلوماسية زيارة المملكة وهو يحمل رساله شفهية من الزعيم الازهري رئيس مجلس السيادة الي الملك فيصل .
وعند وصوله وحسب الاعراف الدبلوماسية فان المراسم تطلب معرفة فحوي الرساله حتي يتم تنوير المضيف بمحتواها واذا كان بها مطالب تتطلب الرد عليها بالتحضير مع جهات الاختصاص .
افادهم المحجوب بان الرساله شفوية .
وفعلا تم تحديد موعد اللقاء وكان لقاء وديا حاول المحجوب بذكائه ولباقته ان يهيىء الملك فيصل لقبول الدعوة وفي نهاية اللقاء كما ذكر الاستاذ مأمون سنادة قال المحجوب مخاطبا الملك فيصل ماذا انت فاعل يا ابا عبدالله اذا كنت ساير في الطريق ووجدت مسلما ملقي علي الطريق وهو ينزف .
رد الملك فيصل بعفوية العربي المسلم طبعا يا ابو سامي اوقف وانقذه .
فورا قال المحجوب يا ابا عبدالله اخوك جمال عبد الناصر ينزف وينتظر انقاذك .
بعدها تحدث المحجوب حديثا شارحا للملك فيصل دواعي تحركهم وحوجتهم لموقف يشبهه الملك فيصل كبير العرب في ذلك الوقت .
بعد موافقة الملك فيصل علي حضور المؤتمر طلب منه المحجوب رساله الي الازهري بالموافقه وقد اعطاها له الملك فيصل .
وهكذا انعقد المؤتمر في الخرطوم وحضره بجانب عبد الناصر والملك فيصل ، امير الكويت الصباح السالم الصباح ، ورئيس جمهورية العراق عبد الرحمن عارف ، و غابت عنه سوريا و حضرت جميع الدول العربية بما فيهم الملك حسين ملك الاردن .
اكبر انجازات ذلك المؤتمر كانت المصالحة بين عبد الناصر والملك فيصل و اللاءات الثلاث وحشد مبلغ مائه وخمسه مليون دولار دعما لدول المواجهة و كان لمصر النصيب الاكبر منها وقسم الباقي بين سوريا والاردن .
ذكر الاستاذ مامون سناده ان كل من ملك السعودية وامير الكويت ورئيس العراق اتفقوا علي دعم السودان ماديا بمبلغ يصرف علي التنمية حتي يحافظوا علي بلد بهذا التميز الذي حققه بعقد هذا المؤتمر الناجح الذي كان لاحقا سببا في نصر اكتوبر ١٩٧٣ بعبور قناة السويس وهزيمة اسرائيل .
بعد ان عرض امر الدعم المادي علي المحجوب والازهري ، اعتذرا عن قبوله لانهم لا يبيعون موقفهما بمال ، انما كان واجب استشعروا ضرورة القيام به .
وهكذا هي دائما الشخصية السودانية اتفق الناس معها او لم يتفقوا .
رحم الله الاستاذ مامون سنادة والجيل السابق من عظماء السودان .
ورحم الله الملك فيصل هذا الرجل الذي كان له رؤية استراتيجية تتعدي المملكة .
اذكر في عام ١٩٧٤ عرض علي الرئيس نميري قيام قوات بحرية ضاربة تحمي البحر الاحمر علي ان توفر المملكة المال وان يكون الرجال من السودان ولكن اقدار الله كانت اسرع برحيل الملك فيصل .
وفي العام التالي ١٩٧٥ تكونت اول بعثه عسكرية سودانية وذهبت الي دولة الامارات لبناء الجيش الاماراتي في كل التخصصات . وقد كان شخصي الضعيف من الدفعة الثانية التي انتدبت في ١٩٧٧ لتاسيس القوات البحرية الاماراتية ، مع اخرين من قادتنا وزملاءنا . واذكر سبقنا الي هناك من المدنين كل من الاساتذة علي محمد شمو للاعلام واحمد عوض الكريم مديرا لبلدية ابوظبي و كمال حمزه لبلدية دبي ومحمد ابو القاسم حاج حمد مستشارا بالخارجية وعددا من المهندسين والاداريين في مختلف التخصصات .
و رغما عن تعثر مشروع القوات البحرية المشتركة لكن ظلت نظرة المملكة العربية السعودية للسودان نظرة استراتيجة بناء علي تلك الاهمية ولم تتوقف عن دعم السودان في مختلف المجالات ورغم اختلاف انظمة الحكم التي مرت علي السودان الي يومنا هذا .