بقلم/ لواء ركن ( م ) د. يونس محمود محمد
“رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة الأسبق”
احتفى التاريخ بتخليد قلاع ومدن استعصت على الغزاة ، واستماتت في المدافعة والذود عن شرفها ، وأعجزت حيل العدو ، واشبعته موتا وأثخنت جراحاته ، وخلدت أسماءها في سجلات المجد والخلود ، ستالينغراد في روسيا ، سراييفو في البوسنة، جناق قلعة في تركيا ، غزة في فلسطين ، وغيرها ممن قدم الشهداء والفدائيين قربان العزة والكرامة ، وكتب بالدم سفر الخلود ، وعالج بالصبر والصمود عناد الغزاة .
ولأن كتاب التاريخ لم يزل مفتوح الصفحات لاهل العزائم ممن يرغب في الانتماء الى مصاف المعالي ، تدخل مدينة الفاشر السودانية هذا المضمار الشاق الطويل ، وتكشف عن مقدرات فوق الطاقة والتصور ، مقرونة بحقائق الأرض ، التي لا توفر لها سترًا طبيعيًا يصد عنها هجوما أو يمنع اختراقا ، وهي بعيدة لا تبلغ يداها مهما امتدت مدينة مجاورة حتى تعينها على النوائب ، يطوقها العدو من فوقها ومن اسفل منها ، تتدفق ارتاله من ليبيا وخطوط الامداد بالعتاد والمرتزقة ، ومن تشاد جارة السؤ في عهد الرخيص ( *كاكا* ) فضلا عن تمدد الجنجويد في كل ملأ اقليمها دارفور ، وتجرد حواضن الجنجويد من اي صفة انسانية أو بشرية ، الامر الذي يجعل سقوط المدينة أو استسلامها أقرب للاحتمال ، وأرجح في معادلات القوى مع اعتبار عامل الوقت لمصلحة العدو حيث يمارس الضغط النفسي ويستنزف الموارد ومؤن القال على قلتها .
نعم هذا التجريد للوضع الماثل هناك ، ولكن فوق كل معقول يطغى غيب ، ويظهر ( *سر* ) وتدخل أرقام في المعادلة تحقق المفاجأة وتثير الفضول وتطرح التساؤلات ، كيف هزمت الفاشر كل محاولات الهجوم المستميت للمرة تلو المرة حتى تجاوزت بالأمس العدد (٢٣٦) هجوم ، كل واحد فيها مشهل بالجنجويد ، مطعم بالمرتزقة ، مترس بالحديد ، مدعوم بالطيران المسير ، مسبوق بالقصف المدفعي والراجمات ، مسنود بدوائر الحصار واطواف المراقبة والموانع الصناعية الخنادق الطولية المانعة للحركة ، محفز بالجوائز والمغانم من الكفيل والوكلاء الساعين لاسقاط المدينة حتى يؤكدوا قطع الاقليم من لُحمة السودان ، كل هذه الحزم من الاعمال المتساندة فشلت في اسقاط الفاشر ، بل تنتفض الفاشر بعد سحق كل هجوم ، اذ يخرج اهلها أجمعين ، رسميين في الجيش والمشتركة ، وعامة السكان رجالا ونساء ، يلاحقون ذيول الفارين من الجنجويد ، ويطمرون ما خلفوه من جثثهم حتى لا تلوث البيئة ، وتصدح في المدى أصوات صدق عجيب ، تنحدر من صدور عامرة بالوطنية ، حفية بالدين ، مترعة بالقيم ، فالشيخ المبارك ( آدم الطاهر ) أصبح هو مؤذن النصر ، والفأل الحسن ينزل حديثه برداً وسلامًا على آذان وقلوب أهل السودان المعلقة هناك في الفاشر ، وكذلك برزت المجاهدة الفذة المراسلة الحربية ( آسيا الخليفة قبلة ) صوت امرأة تنادي من خندق الصبر والصمود لا تضرب خدا ولا تشق ثوبا ، وانما تملى على الناس آيات النصر وتذكرهم سير الابطال ، وتحفز فيهم المرؤة ، حتى أصبحت رمزًا رفيع المقدار في قائمة الاحداث ويوميات الحرب .
هذا التدفق المعنوي السلس ، وهذه الروح الجسورة في أهل الفاشر برغم عظم التحدي ، والفقد اليومي بالقصف الاعشى الجبان ، وبرغم لسع الجوع ، وثغاء الصغار الذين لا يجد أهلهم حيلة للوفاء بادنى متطلباتهم الملحة ، وبرغم طوق الخوف الذي يصوغه الجنجويد حول المدينة ، وبرغم تأخر قوافل النصر ، وعجز الأمم المتحدة من ايصال الغذاء ، برغم كل هذا الظرف البالغ الحساسية والتعقيد ، الا أن مدينة الفاشر ( *لم* *تسقط* )
ولن تسقط بحول الله ، بل أسقطت بالأمس مؤامرة أن يتوافق اقتحامها مع اعلان ما يسمى بحكومة تأسيس ، فمضى الحدث في صمت وحياء وريبة ، وبقيت الفاشر غصة في حلوقهم جميعا ، حلوق الذين يلبسون الكدمول وما اكثر ما جندلتهم على اعتابها المقدسة ، وحلوق من يعتمرون الغترة ، وحلوق من يربطون الكرفتات ، كل هؤلاء وأولئك قد ذاق من طعم الفاشر المر .
الفاشر منصورة بتأييد الله
وستبقى شامة في خد عزة السودانية الجميلة ، مثلما كانت مشرفة في تاريخ بلادنا باستقلالها وانحيازها للحق في الحرب العالمية ، وفي قوافلها المثقلة بالخير لبلاد الحرمين ، وكسوة بيت الله .
وما كان الله ليضيع ايمانها
على ركائب المتحركات رفع صوت الحداء حتى تنشط الرواحل فالمدينة تنتظر
وتترقب نقع الخيول على الأفق القريب ، وصهيل العاديات ، وفرسان المغارات السمر الصِباح .
الفاشر فيها ( *سر* )
ستفصح عنه يومًا ما
وستذكرون ما أقول
نصر من الله وفتح قريب

