مقالات الرأي

صرخةً مدويةً في وجه واقعٍ إعلاميٍّ يموج بالفوضى

المستشار الطيب مضوي شيقوق يكتب ل"5Ws-service

 

بقلم/ المستشار الطيب مضوي شيقوق

عدت اليوم لأتصفح مقال الأستاذ أحمد يوسف التاي، رئيس تحرير جريدة 5Ws – Service 1، فوجدتُ فيه نبضًا صادقًا وصرخةً مدويةً في وجه واقعٍ إعلاميٍّ يموج بالفوضى، حيث تحوّلت ساحات الصحافة من منابر لنقل الحقيقة إلى ميادين صراع تعجّ بالمناكفات والاتهامات. ورغم حدة النبرة التي تخللت سطور المقال، إلا أنها تعكس غيرة حقيقية على مهنة الصحافة، التي يفترض أن تكون منارةً للوعي، لكنها باتت أسيرة لفوضى الكلمة وانحدار المحتوى.

لقد أشار الأستاذ التاي بوضوح إلى أن الإعلام ليس مجرد “ضوضاء في حافلة مزدحمة أو فوضى سوق”، بل هو رسالة ومسؤولية، قوامها الأمانة، وميزانها المهنية والموضوعية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يكمن الخلل فقط في بعض الكُتّاب الذين استرخصوا الكلمة وابتذلوها؟ أم أن الأمر أعقد من ذلك، حيث تتشابك خيوط السياسة والمصالح والضغوط الاقتصادية، لتصوغ مشهدًا إعلاميًا تهيمن عليه الإثارة، ويتراجع فيه صوت العقل والحقيقة؟

إن الأزمة التي يعاني منها الإعلام اليوم ليست مجرد تراجع في مستوى الطرح أو انحدار في لغة الحوار، بل هي انعكاس لواقع أوسع تحكمه معادلات القوة والمال والمصالح الضيقة. فالصحافي، الذي كان يومًا ما حارسًا للحقيقة، يجد نفسه اليوم محاصرًا بين مطرقة الضغوط السياسية وسندان الإكراهات الاقتصادية. المؤسسات الإعلامية لم تعد تقيس نجاحها بمدى جودة المحتوى، بل بقدرتها على تحقيق أعلى معدلات المشاهدة والتفاعل، حتى لو كان ذلك على حساب المصداقية والموضوعية. وهكذا، تحوّل الإعلام من سلطة تراقب وتحاسب إلى أداة تُستخدم لإعادة تشكيل وعي الجماهير بما يخدم جهات بعينها، تاركًا الجمهور في حالة من الضياع بين التضليل والتهويل، وبين البحث عن الحقيقة والانجراف وراء الإثارة.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك صحافيين ملتزمين بالمهنية والموضوعية، ومنابر إعلامية تحترم عقل القارئ، حتى لو لم تكن هي الأعلى صوتًا. فلا يجوز أن نرسم صورة قاتمة بالكامل، وكأن الإعلام قد أضحى مجرد صخب بلا مضمون. المشكلة الحقيقية لا تكمن في الأفراد بقدر ما تكمن في البيئة الإعلامية نفسها، التي صارت تحفّز على الإثارة بدلاً من التنوير، وعلى العناوين الصادمة بدلًا من التحليل العميق. وعليه، فإن إصلاح الإعلام لا يمكن أن يتحقق عبر الاكتفاء بانتقاد ظواهره السلبية، بل يستدعي العمل على توفير بيئة مهنية تدعم القيم الصحافية الحقيقية، وتمنح الإعلاميين المساحة اللازمة ليكونوا صوتًا للحق، لا مجرد أصداء لمصالح ضيقة.

جودة الإعلام ليست مجرد مسألة فردية تتعلق بأخلاقيات الصحافيين، بل هي جزء لا يتجزأ من مؤسسية الدولة والحكم الراشد. فالإعلام الحر والمسؤول هو أحد أعمدة الشفافية والمساءلة، وبدونه تفقد الدولة إحدى أدواتها الرقابية المهمة. إن تحسين البيئة الإعلامية لا يكون فقط بمطالبة الصحافيين بالارتقاء بأسلوبهم، بل بتوفير التشريعات والسياسات التي تضمن استقلالية الإعلام، وتكافح التلاعب به لخدمة أجندات ضيقة.

والأهم من ذلك، أن مصدر الخبر أو المعلومة هو الإنسان نفسه، فإذا افتقر إلى الصدق والأمانة في نقل الأخبار، فلن يكون الإعلام قادرًا على تقديم مادة يُعوَّل عليها. فالمشكلة لا تقتصر على المؤسسات الإعلامية، بل تبدأ من الأفراد الذين ينقلون الأخبار، سواء كانوا صحافيين أو مستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي. وهنا يبرز دور التربية الإعلامية في تعزيز الوعي بمسؤولية نقل المعلومات، حتى لا يتحول الإعلام إلى أداة تضليل بدلاً من أن يكون وسيلة لنشر الحقيقة.

“ختامًا، أتفق مع الأستاذ أحمد يوسف التاي في أن الصحافة ينبغي أن تكون رسالة سامية تُبنى على الحقائق لا على الصخب والمهاترات. ومعالجة أزمة الإعلام، كما تفضل، لا تتحقق بالنقد وحده، بل تتطلب رؤية متكاملة تُشخّص جذور المشكلة، وتوفر بيئة مهنية تعزز القيم الصحافية الحقيقية. فالإعلام المسؤول لا يولد في فراغ، بل هو انعكاس لواقع مؤسسي يدعمه. لذا، فإن إصلاحه يستوجب تكامل الجهود بين التشريعات الداعمة، والاستقلالية المهنية، والوعي المجتمعي، حتى يعود الإعلام إلى دوره الأصيل كمصدر للتنوير، لا أداة للتضليل.”

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى