مقالات الرأي

قراءة جمالية في قصيدة “الرحيل إلى الصحراء” للشاعر والروائي عبد الله عثمان

5Ws-service

بقلم/ عزمي علي بلة
(كاتب سوداني وروائي وقاص مقيم بالإمارات)
في قصيدته “الرحيل إلى الصحراء”، أبدع الشاعر عبد الله عثمان أحمد كعادته في تصوير ملحمةً شعريةً مؤلمة، امتزجت فيها الذكريات بالحنين والخذلان والمأساة الوطنية. بالطبع لم يكن النص مجرد تدفق لغوي، بل تعمق شاعري ساحر مستلهم من الذاكرة الجمعية.
دلالات العنوان:
“الرحيل إلى الصحراء” عنوان معبأ بالرمزية. محمل بإيحاءات الفقد والتيه، حيث ترمز الصحراء في مخيلتنا إلى الجفاف والفراغ، وكأننا أمام حركة تضاد للحياة. من هنا يبدأ التوتر الشعري، إذ يرحل الإنسان من خصوبة النهر إلى قسوة الجدب. يُمثّل العنوان اختزالاً لمحنة الإنسان السوداني في مواجهة النزوح، والاضطهاد، والتاريخ المثقل بالأسى.
ما أن تواصل القراءة في المتن حتى تشعر بدهشة النص الذي استوقفك عنوانه، حيث يبرز النيل في القصيدة لا كمجرى مائي، بل ككائن أسطوري يُخاطبه الشاعر بأسئلة الوجود والذاكرة:
“قل لي أيها النهر متى تفيض
لتغسل الأدران والموت والدماء؟
ألا تحفظ أسماء الملوك؟”
في هذا الخطاب الحي للنهر، يصور النيل كما لو كان معادلًا موضوعيًا لوطنٍ يملك القدرة على الخلاص لكنه يلوذ بالصمت.
ثم يتوصل النص في الإدهاش، الجدة، والأم، والعروس
الجدة الكبرى إحدى أبلغ مفردات القصيدة، بما تحمله من دلالات الحكمة، الصبر، الحنين، والإرث الروحي:
“ثمانون عامًا تتكئ على عودها النحيل…
لم تغادر عتبة الباب…
كانت تنسج وتحيك كأنه سيعود…”
إنها صورة الأنثى المتجذّرة في الأرض، صبرا على الغياب، رفضا للتسليم بالفقد، واندهاشا من قسوة الواقع الجديد. وفي موتها، الذي جاء بشهقة حزينة، يختزل النص جرح الوطن:
“كانت فاتنة وجميلة
تنضح عافيةً وطيبًا
شهقت كليل الخراب…”
البنية الجمالية:
تعتمد القصيدة على صور شعرية مركّبة، ذات زخم بصري عالي، ومن أمثلتها:
“ينتصب قوامها في فضاء الروح مزدهرًا باليقين”
“يستدير ساقها الذهبي معفّرًا بالغبار”
“تسقط أثواب الأفراح واللقيا في سواد وجروح”
وتقوم البنية على إيقاع داخلي حرّ، يرتكز على التكرار والوقفات الوجدانية والإنشادات المباشرة، في لغة تتوشح عاطفة وصور بعيدًا عن الإيقاع التقليدي، مما منحها جمالًا حداثيًا وعمق.
أما على مستوى الرمز، فالنيل، الصحراء، الجدة، الجنود، البياض، الأساور، كلها تشكّل نظامًا رمزيًا متكاملًا، يخلق خريطة شعرية للوطن والمأساة، دون مباشرة أو تقريرية.

ولم يتوقف الشاعر في إدهاشنا وهو يختتم قصيدته بنداء صوفي حزين:
“انفتحي أيتها السماء
دعيني أنظر إليها
وهي تجلس على أريكة من ذهب وياقوت…”
هنا يتحوّل الشعر إلى ابتهال وجودي، حيث تُسائل الروح السماء عن عدالة غائبة. وتبقى “الأم” أو “المرأة” هي روح القصيدة، وسرها، وصوتها المتكرر في الخلفية، كأنها تمثّل كل الوطن الذي ينزف ولا يستسلم.
“الرحيل إلى الصحراء” مرثية وطنية وإنسانية كبرى، تُلامس أوجاع الذاكرة السودانية وتجسّد تشظي الإنسان في وجه العنف والنفي والخذلان.
يكتبها الشاعر عبد الله عثمان أحمد بلغة متورطة في التاريخ، ومشبعة بالرمز، ومتدفقة بصدق شعوري نادر.
كيف يُمكن أن نحيا، بينما يتعرض الوطن لمأساة عميقة؟

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى