
بقلم/ عزمي علي بلة
(كاتب سوداني وروائي وقاص مقيم بالإمارات)
الطيور..
بقلم ياسر عوض
هي الطيور وحدها لا يغطيها الرماد
هي وحدها من تضرب نوافذ الضوء بأجنحتها،
تحك جلد الفضاء..
تحيك من ثوب الترقب دما جديد
الطيور ليست نساء، لا، لیست نساء،
لان النساء مخلوقات راضية التكوين على وشك
أن تصبح أشجارًا
من الممكن أن تصبح بلورات زرقاء،
بمساعدة المياه
هي الطيور.. تغدو دائما أطفالا،
البراءة الآنية تجاه الخبز
الطائرات الورقية التي لا تقصف مناما
لا يفهم الجميع الألم، هو ليس في الجسد..
ليس في البيوت التي غادرت سكانها
وليس في حياتنا البائسة،
ولا في الذكريات التي يملؤها الغبار
الألم الحقيقي هو يقظة الأحلام التي لا تتحقق
هو احتراق أبدي.. في العيون التي لا تنام
الأحلام المهجورة لها وزن تنوء به الذاكرة..
حتى أن السماء وزعتها كثيرًا على البشر
والنساء اللواتي تقتلهن الشائعات
يعرفن الصخور، وأنها تغدو مسارات،
وكل نبضة قلب هي أثر لا ينمحي
لا، ليست نساء
ولا شائعة الانتظار البليدة
إنها الطيور من يعبّر عن حمى الفكرة..
وإلى التوق إلى التلاشي في كل لحظة،
إنها شهقة حيث يؤلمنا الهواء كله
الطيور سانحة حية على إيقاع الضوء المتفلت،
إنها ارتقاء غير مشروط حيث الغيوم والبرق.
صراخ يزدحم على ممرات الدماء..
ضيعت الطيور أوتارها
كي تبحث عن الحريق الذي يبقي التفاصيل
الصغيرة…
ولم تجد سوى صيادين
يطلقون على سياج الأحلام
ومخلوقات صغيرة دفنت نفسها في الأرض..
لكن الألم الحقيقي كان في ساحة أخرى
حيث العصافير تعاني بين الصحو والغياب
ساحة غريبة عن التماثيل البلهاء
عن الجدران الأزلية.. عن الأثاث المرتب
عن كل الأشياء القابلة للكسر
وعن حميمية البركان الأخير..
ما من ألم في الموت،
ثمة خروج فقط.. لكنه خروج ليس آمن
في الثوب الأبيض
ما من ألم في الموت.. ثمة أرض فقط
الأرض بشباكها المفتوحة على الفاكهة
الطيور تمسك الأغاني من أجنحتها،
الأغاني التي انفلتت من دوزنة الخريف،
الخريف الذي أوصد فصوله، ومناخاته
لذا الطيور تواصل هجرتها..
******************
في تقديري للغوص في روح هذا النص لدينا ستة مفاتيح جمالية:
يدعونا هذا النص حقًا إلى رحلة، ويمكننا استكشاف جماله عبر ستة مداخل آسرة. الأمر أشبه بالغوص العميق للكشف عن النسيج الغني لمعناه.
1. قوة الرمزية: حيث تحلق الطيور
في صميم النص، ليست الطيور مجرد كائنات ذات ريش؛ إنها قلب الرمزية. هي ليست محصورة في الواقع هنا، بل تصبح بنية رمزية كبرى نسج الشاعر حولها كل الدلالات الأخرى. يتجلى حضورها في ثلاث بنيات رمزية أساسية:
• الطيور كرمز للحرية والتحليق: تخيّل طيورًا تحلّق عالياً، لم تمسسها أثقال العالم. يقول لنا النص: “هي الطيور وحدها لا يغطيها الرماد”. إنها “تمسك الأغاني من أجنحتها” وتحقق “ارتقاء غير مشروط”. هنا، تمثل الطيور كائنات غير مُروضة، غير قابلة للتدجين، ولا تنتمي لحطام الواقع، بل هي قادرة على التحليق بعيداً عن الرماد والخسارات.
• الطيور كرمز للنجاة من الاحتراق: يلمّح النص إلى دمار أو احتراق رمزي يحيط بكل شيء: “رماد، خراب، قصف، فجيعة”. ومع ذلك، تنجو الطيور دائمًا، “لا يغطيها الرماد” وتُواصل “هجرتها”. إنها تفلت دائمًا، وتنجح في الإفلات من قبضة الكارثة.
• الطيور كرمز للبراءة والطفولة: مشهد رقيق عندما يقول النص: “تغدو دائمًا أطفالًا” ويتحدث عن “الطائرات الورقية التي لا تقصف منامًا”. استعارة رائعة أن تجعل من الطير صورة للطفل، خاصة في مواجهة القسوة. وكأن البراءة هي الوجه الآخر للحرب.
2. روح النص: نسيج من المشاعر
النص مشبع بألم محسوس، لكنه وجع تعمّد الشاعر عدم تحديد مصدره. إنه شعور وكأن الحزن لا ينبع من واقعة بعينها، بل من إحساسنا العميق بالعجز، ومن انكسارنا الداخلي.
تأمّل عبارات مثل:
• “الألم الحقيقي هو يقظة الأحلام التي لا تتحقق.”
• “شهقة حيث يؤلمنا الهواء كله.”
• “العصافير تعاني بين الصحو والغياب.”
الألم لا يأتي من الموت فحسب، بل من الحياة الناقصة، من الحلم الذي لم يكتمل. يرفض النص تفسيرات الألم الجسدي، ويقترح أن الألم الحقيقي يكمن في الروح، في أحلام لم تتحقق، في حياة بلا أجنحة.
3. اللغة الشعرية والصور الفنية:
لغة النص مرنة بشكل مدهش، مشحونة بالإيحاء وانحراف الكلام عن النسق المألوف، وهو ما أقصد به أرقى درجات الانزياح الدلالي. إليك بعض الاستعارات المبتكرة:
• “تحك جلد الفضاء”: كأن الفضاء نفسه كائن حي، يتألم من أجنحة الطيور.
• “تحيك من ثوب الترقب دمًا جديدًا”: دم يتولّد من الانتظار، وهو ما يعكس علاقة معقدة بين الزمن والانفعال.
• “الطيور تمسك الأغاني من أجنحتها”: تصبح الأغنية مادية تقريبًا، ويحملها الطائر كأثر من حريته.
• “يشهق حيث يؤلمنا الهواء كله”: يصبح الهواء كائنًا مؤلمًا، والإنسان كائنًا شفافًا تؤلمه الأشياء غير المرئية.
• “ولم تجد سوى صيادين يطلقون على سياج الأحلام”: هذه الصورة، في رأيي، تُظهر حقًا موهبة الشاعر ياسر عوض ككاتب مسرحي، قادر على مسرحة أجزاء من النص بشكل بديع. إنها ترسم لوحة للقمع والخذلان، كصياد يحطّم الأحلام المحاطة بحدود الأمل.
4. اللحن الداخلي: الإيقاع والموسيقى
على الرغم من أن هذا النص نثري، إلا أنه ينبض بإيقاع شعوري أكثر منه صوتيًا.
تكرار تركيب “هي الطيور” يمنح النص تدفقًا انسيابيًا جميلًا. كما أن التكرار الجزئي للجمل في مقاطع مثل:
• “ما من ألم في الموت…”
• “ليست نساء… ليست نساء…”
يعمل هذا التكرار على إضفاء إيقاع نفسي، ونبرة هادئة حزينة، تتناغم تمامًا مع موضوع الخسارة.
5. التناقض الجميل: المفارقة الشعرية
يعتمد النص كثيرًا على المفارقة كآلية أساسية لجماله، متحديًا توقعاتنا باستمرار:
• الطيور رمز للحياة، لكنها تعاني.
• لا ألم في الموت، لكن لا خروج آمن.
• الأطفال أبرياء، لكنهم في مرمى القصف.
• البراءة موجودة، لكنها لا تنجو دائمًا.
هذه ليست مجرد تناقضات عشوائية؛ بل هي تعكس حسًا مأساويًا فلسفيًا عميقًا. الأشياء الجميلة لا تنجو بالضرورة من الأذى؛ وأحيانًا تتألم أكثر بسبب شفافيتها ورقتها.
6. الرسالة الباقية: خاتمة النص
الجملة “لذا الطيور تواصل هجراتها” تلخص فلسفة النص بأكملها بشكل بديع. لا شيء يستقر حقًا، لا في الحلم، ولا في الذاكرة، ولا في الألم، ولا حتى في النجاة.
تهاجر الطيور كما يهاجر الحلم، وكما يهاجر الأمل من وجدان الشاعر. ومع ذلك، على الرغم من كل شيء، تظل تحلق وهذا يعني أنها تظل تقاوم.
” الطيور” قصيدة عن الإنسان المحلّق داخل روحه، هذا الكائن الجريح الذي يصرّ على حمل جناحيه حتى لو تحطم الحلم. إنها قصيدة حيث يكون الحلم ألمًا، والبراءة حقيقة مفقودة. إنها قصيدة رمزية عميقة، تفيض بالعاطفة المكتومة، والمفارقة الموجعة.