
بقلم المحامي و المستشار القانوني : طيب شيقوق
تستعد محكمة العدل الدولية لاستئناف الجلسات المتعلقة بالقضية التي رفعتها جمهورية السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، وسط اهتمام واسع في الأوساط القانونية والحقوقية. القضية تتعلق باتهامات سودانية للإمارات بدعم قوات الدعم السريع، المتهمة بارتكاب فظائع في إقليم دارفور قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
الرأي عندي هو أن الجلسة القادمة لن تدخل في فحص وقائع القضية أو سماع الأدلة المتعلقة بها، وإنما للبت في مسألة حاسمة وهي: هل محكمة العدل الدولية مختصة بالنظر في الشكوى المقدمة من حكومة السودان رغم ادعاء الإمارات تحفظها على ذلك الاختصاص؟ وهي مسألة قانونية دقيقة قد تُحدد مصير القضية من حيث قبولها أو رفضها مبدئيًا.
تحفظ الإمارات: رفض الاختصاص استنادًا للاتفاقية
منذ لحظة تقديم السودان دعواه، بادرت الإمارات إلى الطعن في اختصاص محكمة العدل الدولية، مستندة إلى تحفظ قانوني كانت قد أبدته عند انضمامها إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. ويقضي هذا التحفظ بأن اللجوء إلى المحكمة بشأن أي نزاع يتطلب موافقة صريحة من الدولة المعنية، مما يجعل قبول المحكمة للنظر في الدعوى مرهونًا بموافقة الإمارات، بحسب رأيها القانوني.
بالتالي، تعتبر الإمارات أن المحكمة غير مختصة تلقائيًا، وأن أي محاولة لتجاوز تحفظها تمثل مخالفة للقواعد التي ارتضتها الدول عند انضمامها إلى الاتفاقية.
موقف السودان: أولوية العدالة على التحفظات
من جهتها، تسعى الحكومة السودانية إلى مقاومة الدفع الإماراتي عبر التأكيد أن المحكمة تملك الاختصاص في هذه القضية، وأن الطابع الإنساني للانتهاكات المزعومة في دارفور يجعل القضية ذات طبيعة استثنائية تتجاوز الشروط التقليدية للاختصاص.
ويرى السودان أن الجرائم التي ارتُكبت لا يمكن تحييدها بتحفظ قانوني، بل يجب أن تواجه بإرادة قضائية دولية تسعى لتحقيق العدالة والمساءلة. وبالتالي، فإن السودان يُعوِّل على أن تُغلّب المحكمة البُعد الإنساني على البُعد الشكلي في تفسيرها للاختصاص.
ما الذي ستتناوله الجلسة القادمة؟
الجلسة المقبلة أمام المحكمة لن تنظر في الوقائع أو الأدلة، بل ستُخصص بالكامل لمناقشة مدى اختصاص المحكمة بالنظر في الشكوى السودانية. سيعرض كل طرف حججه القانونية:
الإمارات ستُعيد تأكيد تحفظها وضرورة احترامه كجزء من اتفاقية انضمت إليها بشروط واضحة.
السودان سيستند إلى القانون الدولي وضرورات العدالة لتجاوز هذا التحفظ، مشيرًا إلى فظاعة الجرائم المرتكبة.
لن تُصدر المحكمة قرارها في الجلسة نفسها، بل ستتبعها مداولات مطوّلة قبل إصدار الحكم في مسألة الاختصاص.
السيناريوهات المحتملة
أن تقرر المحكمة أنها مختصة: وبهذا يُتاح للسودان المضي قدمًا في عرض أدلته وفتح ملف الجرائم المرتكبة في دارفور، وقد تُستدعى أطراف وشهود وخبراء لتقييم الوقائع ضمن جلسات علنية ومداولات مطوّلة.
أن تقرر المحكمة أنها غير مختصة: وفي هذه الحالة تُغلق القضية من بابها الشكلي دون الدخول في جوهرها، ما يعد انتصارًا قانونيًا للإمارات، ونكسة لمساعي السودان القانونية.
أن تُصدر المحكمة قرارًا إجرائيًا وسيطًا: كتأجيل الفصل لحين تقديم مستندات إضافية، أو اقتراح تسوية عبر آلية قانونية أخرى، وهو احتمال ضعيف لكنه وارد.
هل هنالك أي سوابق قضائية تم فيها التذرع بمثل هذا التحفظ ورفضته المحكمة؟
في ماضيها القضائي، تعاملت محكمة العدل الدولية مع حالات مماثلة حاولت فيها دول التملص من اختصاص المحكمة استنادًا إلى تحفظات قانونية أُبدِيت عند الانضمام إلى معاهدات دولية. وفي بعض تلك الحالات، قررت المحكمة أن بعض التحفظات لا يجوز أن تُستخدم كذريعة لعرقلة العدالة، خاصة إذا كانت القضية تنطوي على شبهة ارتكاب جرائم خطيرة تهدد السلم الدولي أو تمس جوهر الكرامة الإنسانية.
لكن يجب التنويه أن كل حالة تخضع لظروفها الخاصة، ولهذا فإن اجتهاد المحكمة في هذه القضية سيُضاف إلى رصيدها من السوابق التي تُشكّل تطورًا في القانون الدولي.
التداعيات الإقليمية والدولية
لن تكون تداعيات هذه القضية مقتصرة على الأطر القانونية، بل ستتردد أصداؤها في أروقة السياسة والدبلوماسية، خاصة بين السودان ودول الخليج، وعلى رأسها الإمارات. كما ستراقب منظمات حقوق الإنسان هذا الملف عن كثب، باعتباره اختبارًا لنزاهة النظام القضائي الدولي وقدرته على التصدي لجرائم كبرى، مهما كان موقع الجهة المتهمة.
الخاتمة
ستظل أنظار العالم مشدودة إلى قرار المحكمة، حيث إن ما يصدر من هيئتها الموقرة لن يؤثر فقط على مستقبل هذه القضية، بل سيحدد أيضًا المساحة المتاحة للعدالة الدولية في مواجهة التحفظات القانونية والسياسية التي قد تُستخدم أحيانًا كجدار أمام محاسبة مرتكبي الجرائم الفادحة.