بقلم /الدكتورة ناهد قرناص
تجنبت تماما النظر الى الصور التي وردت الي من زملاء العمل بعد ان تمكن البعض منهم مشكورين في الوصول الى موقع المعمل وتصويرالخراب بل الدمار الذي طال المباني والاجهزة البحثية التي تفوق قيمتها المادية (التي تقدر بالاف الدولارات) .. و قيمتها البحثية والتي ساهمت في تخطي الكثير من الازمات الصحية والوبائية التي مرت علي بلادنا في الفترة السابقة .
لكن ماذا تفعل في النفس الانسانية ومحاولة معرفة ما الذي حدث ويحدث؟
صدمتي كانت عنيفة ..ذلك ان المعمل ليس فقط مكانا اتلقى عبره راتب شهري او مصدر رزق ..المعمل عمري وافكاري ومجهودي الذهني عبر السنوات ..الكثيرون لا يعلمون شيئا عن عملنا وتأثيره على ارض الواقع ويظنون اننا نضيع الوقت في احلام وردية وتجارب لا تمت للواقع باي صلة ..
لذلك استميحكم عذرا في بعض وقتكم لاحكي لكم عن وحدة انتاج الكواشف الطبية التي كنت انتمي اليها منذ كانت فكرة على الورق.
الكواشف الطبية هي تلك الشرائح الصغيرة التي يتم بها الكشف عن الأمراض ..هي وسيلة كشف سريعة ودقيقة وتوفر المجهود والوقت ويمكن عبرها الكشف المسح الوبائي السريع للامراض (مثال اداة كشف السكري ..والملاريا ) ..هذه الكواشف تستورد بلادنا منها اعداد مهولة سنويا ..تستخدمها المستشفيات والمعامل الصحية والمختبرات والابحاث وتكلف الدولة ملايين الدولارات .
(هذه الكواشف صناعتها لا تكلف الكثير ..ويمكن ان يتم توطين صناعتها في السودان عبر شراكة علمية مع احدى الدول المنتجة) ..كانت هذه فكرة بروفسور طه المكاشفي وتبناها المعمل المركزي عبر بروفسور الطاهر عوض قاسم ومن ثم حملت الرايه بعده دكتورة دينا احمد حسن ..والتي خرج الحلم في عهدها من الورق الى ارض الواقع .. ..بدانا منذ الصفر وسلاحنا فقط الحلم ..حيث تم توقيع اتفاقية لنقل التكنولوجيا بين السودان ودولة كوريا الجنوبية يتم خلالها استيراد الماكينات وتدريب الفريق البحثي حيث يتم انتاج كواشف طبية لثلاثة امراض كضربة البداية (الملاريا ..والتهاب الكبد الوبائي ونقص المناعة (الايدز)) .
بدا المشروع بتمويل من وزارة المالية الاتحادية ..وارتفع البناء مع الآمال ..احيانا كنا نعود الى بيوتنا بعد ان يسدل الليل اطرافه ..كنا كثيرا ما نعمل ايام الجمع والعطلات الرسمية ..مرت الايام واخيرا تم تركيب الماكينات وتدريب الفريق الفني (د.محمد على و د. العاقب ابراهيم ..تقني اول نورالدين زين العابدين ..تقني اول رنا الحبر وتقني اول عائشة مضوي بالاضافة الى شخصي )..وحصلت الوحدة على ترخيص الادوية والسموم كوحدة للابحاث والتطوير ..
وفي يناير عام 2023 تم انتاج الدفعة الاولى من شرائح الامراض المذكورة اعلاه ..وكانت تحت الفحص والتجريب تمهيدا لتسجيلها كأول كواشف طبية مصنوعة في السودان ..
كل ذلك توقف مع بداية الحرب ..بقدر ما كانت فرحتنا بالمولود الاول بقدر ما كان حجم الالم والذهول
كل ذلك انتهى وتدمر في غمضة عين
لا ادري فيم كان يفكر هولاء حينها ..
الذين دمروا تلك المعامل ..واعملوا معاولهم وكسروا تلك الاجهزة ..لا يعلمون قيمتها ولا كيف انها كانت يمكن ان تساهم في علاجه او علاج اهله ..لايعلمون ان ثمنها تم جمعه من ضرائب بلاده وتعب قومه ..
ولو سألتموني عما كنت اتوقعه ..
كل شئ الا حجم هذا الدمار
وانني كنت دائما اردد (الله يكضب الشينة) ..
الألم الذي اصابني وانا اشاهد حجم الدمار للوحدة ..والتكسير الذي طال كل الاجهزة التي دفعت البلاد ثمنها من الاموال المرصودة للتنمية ..
الم يصل حد الوجع …
لم نعرف كيف نعزي بعضنا البعض في اسرة المعمل ..وكل يبكي على معمله واجهزته والعينات التي تدمرت ..
لكن السؤال الذي لم نعرف له اجابة حتى الان !!
لماذا تم كل هذا التدمير للاماكن البحثية والعلمية ؟
العزاء اقدمه للبروفسور نصر الدين بلال ..مدير المعمل المركزي ..ولكل الزملاء الباحثين والتقنيين والفنيين ..عزائي لكم …
فالكل نزل عن جبل الرماة ويقتسمون الغنائم ويختصمون حول الكراسي
اما نحن ..فلا بواكي لنا
نحن لا نزال نتلقى العزاء في كل ما افنينا عمرنا حوله.
كتبت هذا المقال ..للتوثيق للاجيال القادمة ..لا اعرف من سيكتب التاريخ وما هي الحكاية التي سيتم نسجها عن هذه الحقبة ..ربما يصدقون و ربما تضيع عليهم بعض التفاصيل ..لكن اقول ان الذي حدث كان شيئا يفوق الخيال ويتعداه
حسبنا الله ونعم الوكيل

