بقلم/ أيوب صديق
(خبير إعلامي – مذيع B.B.C الأسبق)
المقال الرابع ( 4)
ذكرتُ في ختام المقال الثالث من هذه الحلقة، أنه في ذلك الجو السياسي المضطرب في السودان، اقترحتُ على إدارة الإذاعة في لندن أن أُسافر إلى السودان في مهمة صحفية، أوافي فيها الإذاعة بمادة خاصة عن تلك الأحداث. وفعلاً سافرتُ ووصلتُ الخرطوم، حيث وجدتُ فيها جوًا في غاية الاضطراب السياسي، وخوفًا جاثيًا على صدور سكان العاصمة بمدنها الثلاث، من تهديداتِ الحركة الشعبية التي باتت تُنذرُ باجتياح العاصمة، وتُسمِعُهم تهديداتِها من إذاعتها يوميا من إثيوبيا.
تلك الأجواء التي كانت تتسم بضعف سلطة الحكومة، ضعفٌ ظهرت آثاره السلبية في الشارع العام. ومن أهم مظاهر تلك الآثار تهديداتُ للناس ممن يناصرون قرنق من أعدد كبيرة من الجنوبيين الوجودين في مدن العاصمة الثلاث، وهم كثيرا ما يقولون للناس جملة باتت دارجة على ألسنتهم (أصبروا لما يجي قرنق). وسمعتُ أن بعضهم كانوا يركبون البصات العامة ويرفضون ثمن دفع تذاكر سفرهم، وذلك ربما لعلمهم بضعف السلطات الرسمية التي يمكن أن تجبرهم على دفع ثمن تلك التذاكر إن التجئ إليها. وفي ذلك الجو؛ ومما أُسدي لي من نُصحٍ بألا أرتاد بعد حلول المساء بعض نواحي الخرطوم. وسموا لي أماكنَ منها شارعُ القصر، وتحديدًا نواحيَ مثل (سينما كولوزيوم) وما حولها.
كانت أشد أوقات خوف سكان العاصمة السودانية في شهر نوفمبر 1987م، عندما صعدت حركةُ قرنق عملياتها العسكرية في جميع مواقعها، مما حمل القيادة العامة للجيش على إخلاء مدينتي الكُرمك وقيسان، وسحب قواتها وإعادة جمعها خارج تينك المدينتين، لأنهما أصبحتا تحت مرمى مدفعية ثقيلة وقصف صاروخي للحركة المتمركزة في أثيوبيا. أما إذاعة الحركة التي اعتادت بث الخوف في نفوس سكان العاصمة السودانية، فقد أعلنت احتلال المدينتين ــ الكُرمك وقيسان ــ واستمرارَ قواتها في الزحف نحو مدينة الدمازين، حيث زاد خوف الناس على ما كان عليه في نفوسهم.
وفي ذلك الوقت الضائع كما يُقال، كان السيد الصادق يبحث في أمر الحصول على سلاح من ليبيا. بيد أن السيد محمد عثمان الميرغني كان أسرع منه خُطىً فيمم شطرَ بغداد، حيث أمده العراقيون براجمات أطلق عليها الناس ” راجمات أبو هاشم “. وصلت تلك الراجماتُ السودانَ سريعًا، وكان لها دورٌ حاسمٌ في المعركة، فاستُعيدت المدينتان، فخفف ذلك من خوفِ سكان مدن العاصمة، ولو إلى حين، لأن حالة الضعف لم تزل ملازمة القوات العسكرية التي تقاتل جيش الحركة الذي يفوقها عدة وعتادا.
وفي ذلك الجو الديمقراطي الهزيل، المشحون بالتوتر، والمماحكات السياسية رفع الجيشُ مذكرته تلك التي سبق أن أشرنا إليها. وكان السيد زين العابدين الشريف يوسف الهندي، العضو الاتحادي الخطيب المفوه، أخد يسمع الناس ما يقوله في البرلمانَ في سير الديمقراطية التي تتقاذف مَركَبها أمواجُ التناحر الحزبي، حيث كان وجهُ الحقائق القبيحِ يُغطى بغربالٍ من استهتار الواقع المر. ذلك مثال ما كان ردُ أبرزِ أعضاء حزب الأمة السيد عمر نور الدائم عندما قيل في البرلمان إن (مدينة توريت سقطت في أيدي المتمردين) فقال، “ما تسقط تورين سقطت برلين.”. ونسيَ الرجلُ أو تناسى أن برلين أسقطتها قوات الحلفاء التي كان يقودها الجنرال الأمريكي (دوايت أيزنهاور) الذي صار رئيسَ الولايات المتحدة بعد الحرب، بينما أسقطت توريت الحركة ُالشعبيةُ لتحرير السودان، التي وصفها هو ذاتُه ذاتَ مرة بأنها حركة حقيرة.
وأخذ السيد زين العابدين الهندي يُعدد في خطبه المواقع العسكرية التي كانت تتساقط في أيدي قوات الحركة الشعبية في الجنوب، وأن قوات الحكومة كانت تلجأ إلى الدول المجاورة المعادية للسودان لتحتمي بها، بسبب ما تعانيه من نقص في كل المعينات اللازمة للقتال. وقال إنهم يتحدثون للناس عن ديمقراطية وصفها بانها، “كسيحةٌ كئيبةٌ بائسةٌ عرجاءُ، لو شالا كلب ما في إنسان بيقول ليهو جر”!! فجرى قوله ذاك مثلا. وتعرض لأوضاع أفراد الجيش في الجنوب وقال: “إنهم يأكلون الفئران، والفئران نفسها هزيلة وليس فيها لحم يؤكل!!” مما نُقل عن السيد الصادق أنه قال عن أحاديث الهندي هذه، “على كل حال لقد وظف الحزب الاتحادي الديمقراطي متحدثا لبقا لهدم النظام الديمقراطي من أساسه!! وكان الناس يتداولون في مجالسهم ما يدور في ذلك الجو السياسي، الذي يتمنون الخروج منه إلى برٍ من أمواجه المتلاطمة، الذي يحملون فيه تلك الحكومة الضعيفة التي أورثتم ضيقا ملازما في العيش بمختلف سبله، وخوفا ملازما من أن تشرق عليهم شمس يوم جديد الأيام، وهم صاروا تحت حكم الحركة الشعبية لتحرير السودان، في السودان الجديد الذي بشرهم به زعيمها جون قرنق، بأن يشرب في القريب العاجل القهوة من يد بنت شمالية ، وفي المدى البعيد بإخراج أمة هذه البنت وهم العربُ من السودان، كما أخرج أسلافُها من الأندلس بعد أن حكموها أربعمئة عام حسب توعده.
في تلك الأجواء قابلتُ اللواء محمد عثمان مالك، رئيسَ التوجيه المعنوي في مكتبه بالقيادة العامة، وطلبتُ منه تحديد موعد لي، لإجراء مقابلة مع الفريق فتحي أحمد على القائد العام للقوات المسلحة. فطلبوا مني إثر ذلك الطلب الأسئلة التي أنوي توجيهها إلى القائد العام، فقلتُ لهم، ليست لدي أسئلة وإنما هي نقاط فقط، وعللتُ لهم ذلك لهم بأنه من كل نقطة قد يتولد سؤال جديد، ولذا اصررت على النقاط فقبولها.
وريثما يُحدد لي موعدُ المقابلة مع القائد العام، قابلتُ الإخوة المشرفين على قسم الإعلام، فأسمعوني إذاعة قوات الحركة التي كانت تبث من إثيوبيا. وهي إذاعة تذيع فيما تذيع، ما يمدها به (الرفاقُ) في الخرطوم من معلومات عن تحركات قوات الجيش، مثل قولهم (المتحرك الفلاني يقوده فلان الفلاني وهو متجه إلى الجهة الفلانية) فتتصدى له قواتُ الحركة فيُضرب حيث ما اتجه، وهكذا دواليك. وبقيتُ منتظرًا تحديد ذلك الموعد مع القائد العام للقوات المسلحة.
( يتبع إن شاء الله).*


