بقلم/ الدكتورحيدرمعتصم
(باحث في الشأن السياسي)
مدخل: لطالما ظلت الممارسة السياسية في السودان رهينة لعقلية الغنيمة، وهي عقلية تقوم على أن السلطة مكافأة وكنزٌ يجب احتكاره، لا مسؤولية وطنية جماعية يتم تداولها بالشراكة. ولعل أحد أخطر تجليات هذه العقلية هو التعامل مع الدولة كغنيمة حرب، وليست ككيان سيادي محايد يخدم جميع المواطنين.
السودان منذ الاستقلال لم يشهد تداولًا ديمقراطيًا حقيقيًا للسلطة، وكل الأنظمة التي تعاقبت، مدنية كانت أو عسكرية، اتبعت ذات المنهج: الوصول إلى الحكم يعني الهيمنة، لا التمثيل. والهيمنة تُمارس من خلال السيطرة على أجهزة الدولة، وإقصاء الآخر، وتجفيف منابعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
هذا النمط من التفكير يُنتج صراعًا لا ينتهي، لأن كل طرف يرى أن خسارة السلطة ليست مجرد خروج من الحكم، بل خسارة للهوية والوجود والمصالح. وهكذا، تصبح السياسة أداة استئصال، لا وسيلة تدبير للخلاف.
الخروج من هذا المأزق يتطلب تفكيك عقلية الغنيمة، وبناء عقلية الدولة. عقلية الدولة لا ترى في الحكم غنيمة، بل مسؤولية. عقلية الدولة تؤمن بأن الإدارة تكليف، لا تشريف. عقلية الدولة تقوم على المؤسسات، لا الأشخاص. عقلية الدولة تعترف بالتعدد والتنوع، وترى في الشراكة السياسية سبيلًا للحفاظ على الوحدة.
ما يُؤسف له أن جميع التيارات السياسية السودانية القديمة – سواء إسلامية أو يسارية أو ليبرالية – ظلت تتحرك داخل إطار عقلية الغنيمة، متخذة من الأيديولوجيا مظلة لإقصاء الآخر، لا لبناء مشروع وطني. ولم يتمكن أي تيار حتى الآن من تقديم رؤية وطنية جامعة تقوم على عقلية الدولة، وتؤسس لشراكة سياسية تقوم على المواطنة لا المحاصصة.
المرحلة المقبلة تتطلب تأسيس تيار وطني جديد، يحمل عقلية الدولة كمرجعية، لا الأيديولوجيا. وهذا التيار لا يمكن أن يولد من رحم الصراع القائم، بل من رحم المجتمع المدني الواعي بدوره في إعادة بناء و تأسيس الدولة و المجمع الأهلي الحارس لقيمه و موروثاته الحضارية، الذي يرى في الوطن إطارًا مشتركًا، وفي التنوع قوة، وفي المؤسسات أدوات حكم لا أدوات غلبة.
التحول من عقلية الغنيمة إلى عقلية الدولة ليس مجرد تحول سياسي، بل تحول ثقافي وفكري وأخلاقي. ولا بد لهذا التحول أن يبدأ من القاعدة، من الوعي المجتمعي، من التربية والتعليم، من الإعلام، من مؤسسات المجتمع المدني و الأهلي ، قبل أن ينعكس على النخب السياسية. السودان لن ينهض إلا إذا تمكنا من بناء دولة لا تُختطف، ولا تُغنم، بل تُبنى وتُخدم… نواصل.


