مقالات الرأي

هل تنجح “البلطجة” في إنقاذ الاقتصاد الأميركي؟

المستشار القانوني الطيب شيقوق يكتب ل"5Ws-service"

بقلم / الطيب شيقوق – المحامي
“الخبير في قوانين أسواق المال”

لم تكن الولايات المتحدة يوماً تتردد في استخدام نفوذها لفرض سياساتها الاقتصادية على العالم. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ورثت عن بريطانيا زعامة النظام المالي العالمي، لكنها لم تكتفِ بعباءة الريادة التقليدية، بل ذهبت أبعد من ذلك، مستخدمة أدوات القوة الناعمة حيناً، والخشنة حيناً آخر، في مزيج يشبه إلى حد كبير ما يمكن وصفه بالبلطجة الاقتصادية. هذه البلطجة لا تعني بالضرورة العنف المباشر، ولكنها تشير إلى استخدام متعمد للهيمنة والتهديد والعقوبات والحروب التجارية كوسائل لبلوغ أهداف اقتصادية، أو لحماية مصالح آخذة في التآكل.

في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد التحديات أمام الاقتصاد الأميركي داخلياً وخارجياً، بدا أن واشنطن تلجأ أكثر فأكثر إلى هذه الأدوات. الصراع مع الصين نموذج صارخ. فرض رسوم جمركية، تقييد صادرات التكنولوجيا، الضغط على الشركات الكبرى لقطع علاقاتها مع بكين، ثم سَنّ قوانين لعزل الصين عن سلاسل الإمداد في القطاعات الاستراتيجية. الهدف الظاهر هو حماية الأمن القومي، لكن البعد الاقتصادي واضح لا يحتاج إلى كثير تحليل. الصين تهدد الصدارة الأميركية، والرد جاء بصيغة فيها من العدوان الاقتصادي ما يكفي لفتح جبهات طويلة الأمد من التوتر.

لكن فرض الرسوم الجمركية، بوصفه أحد أبرز أدوات هذه السياسة، لا يخلو من مردود سلبي ملموس على الاقتصاد الأميركي نفسه. فعندما تُفرض الرسوم على الواردات، تتحمل الشركات هذه التكاليف أولاً، لكنها في الغالب تمررها إلى المستهلك. النتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة وحتى السلع المحلية المنافسة لها، مما يؤدي إلى زيادة التضخم وتقليل القوة الشرائية للأسر. وهنا تصبح الطبقة الوسطى هي الضحية الأولى، وتبدأ فجوة الدخل في الاتساع أكثر.

ثم تأتي تداعيات الخارج، حيث تبادر الدول المتضررة إلى الرد بالمثل، فتفرض رسوماً على المنتجات الأميركية، ما يؤثر سلباً على المزارعين والمصنّعين الذين يعتمدون على التصدير. وتجد بعض الصناعات الأميركية نفسها في مأزق لا تُحسد عليه، إذ تفقد حصتها في السوق العالمية تحت ضغط السياسات الانتقامية. ومع الوقت، يتحول الاقتصاد الأميركي من لاعب منفتح إلى اقتصاد محاصر بقراراته، فاقد لمرونته، تتهدده الانعزالية ويلاحقه الشك من الشركاء.

الضرر لا يتوقف عند حدود التجارة الخارجية، بل يمتد إلى الداخل عبر اضطراب سلاسل الإمداد. فالاقتصاد الأميركي الحديث مرتبط بشبكات عالمية من الموردين والمصنّعين، وفرض الرسوم يقطع أو يعرقل هذه الشبكات، ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وتأخر عمليات التصنيع. شركات كثيرة تجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما رفع الأسعار وخسارة الزبائن، أو تقليص العمالة لتقليل التكاليف. وفي كلتا الحالتين، تكون النتيجة مزيداً من الضغط على النمو وفرص العمل.

وفوق كل ذلك، تخلق هذه السياسات مناخاً من عدم اليقين الاقتصادي، ما يدفع المستثمرين إلى التردد، ويبطئ من وتيرة الاستثمارات الجديدة. السوق بطبيعته لا يحب المفاجآت، والسياسات التجارية العدوانية تزرع القلق وتُضعف الثقة. فبدلاً من الاستقرار الذي يشجع على النمو، يجد الاقتصاد الأميركي نفسه يتأرجح بين موجات من التوترات التجارية والانعكاسات التضخمية، التي لا تنفع معها التطمينات الخطابية ولا الحزم النقدية المؤقتة.

قد تنجح هذه الأساليب في تأجيل الانهيار أو كسب الوقت في مواجهة منافس صاعد كالصين، لكنها لا تقدم علاجاً حقيقياً للتحديات البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي، مثل أزمة الدين العام، وتراجع التصنيع الحقيقي، وتضخم الأسواق المالية على حساب الاقتصاد الإنتاجي. وكلما اشتدت الأزمة، ازدادت شهية واشنطن لاستخدام النفوذ والتهديدات كوسيلة للنجاة، لكن العالم تغيّر، ولم تعد الهيمنة المطلقة قابلة للاستمرار.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى