
تحليل /أحمد يوسف التاي
(1)
لم يحظَ حزب سياسي في السودان مثل ما حُظي حزب الجبهة الإسلامية القومية “سابقاً”، المؤتمر الوطني حالياً..
بعد المصالحة الوطنية بين أحزاب المعارضة السودانية ونظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في 1977، وجد حزب الجبهة الإسلامية بزعامة الترابي نفسه يتربع في مساحة واسعة بالحكومة فتمدد بارتياح في كل المساحات الفارغة التي تركها حزبا الأمة بزعامة الصادق المهدي، والاتحادي الديمقراطي برئاسة محمد عثمان الميرغني، فحينما (حَرِد) “السيدان”، لم يستنكف الزعيم الإسلامي حسن الترابي ولم يستصغر المناصب التي تضمنتها مشاركته نميري الحكم…في هذه الأثناء بنى الترابي حزبه وسكّن كوادره في المناصب الدستورية والوظائف الحكوميةذات الالق والامتيازات وهيمن على مقابض المال في الدولة مثلما يفعل رئيس حركة العدل والمساواة د.جبريل إبراهيم الآن تماماً..خلق الترابي لحزبه مواقع في وزارات التحصيل المالي مثل الضرائب والجمارك، والصناديق المالية، والمصارف وشركة التأمين الإسلامية وغيرها لاحقاً..
(2)
بعد سقوط نميري وجد الإسلاميون أن مايو قد سقطط لهم في (عِبَّهم)، ووجدوا أنفسهم في وضع مالي مريح استطاعوا من خلاله خوض انتخابات 1986 بارتياح وتمكنوا من منافسة الحزبين الكبيرين ( الأمة والاتحادي) واحتلوا المركز الثالث بامتياز..لكن “الجبهة” اختارت المعارضة وتآمرت على حكومة المهدي بتدبير إنقلاب عسكري عليها نفذه كادرها في الجيش عمر البشير في 30 يونيو 1989، وهيمنت على الحكم (30) عاماً..
(3)
الشاهد في الفترتين الأولى والثانية أن حزب الجبهة الإسلامية “سابقا” والمؤتمر الوطني “حالياً” أضاع أهم فرصتين في تاريخه ، الأولى قطع الطريق أمام نفسه في الاختيار التلقائي والإقبال الجماهيري عليه، والمد الشعبي الذي حظي به دون إغراء وترغيب لأحد أو ترهيب، وذلك بالإنقلاب العسكري 89 الذي حال دون تطوره الطبيعي كحزب سياسي مؤسسي ديمقراطي.
..والفرصة الثانية التي اهدرها بامتياز تجربته في الحكم لثلاثة عقود، وخلال هذه الفترة كان يمكن أن يؤسس حزباً ديمقراطياً ذا مؤسسات قوية تُحكم سيطرتها على الأفراد بالقانون واللوائح عِوَضاً عن تحكم الأفراد فيها، فاستسلم الحزب لسيطرة أشخاص تربط بينهم المصالح الذاتية ..
(4)
الفرصة الثانية التي اهدرها تمثلت في إهمال بناء هياكل الحزب على نحو ديمقراطي مؤسس على القانون، هذا الأهمال المؤسسي خلق فوضى تنظيمية عارمة جعلت الهياكل الموجودة مجرد هياكل صورية ديكورية تمارس داخلها شورى انتقائية وتُتخذ فيها القرارات بشكل غير ديمقراطي ينطوي على “التلاعب” وقد ظهر هذا السلوك منذ العام 1997 عند اختيار د. غازي صلاح الدين وإقصاء منافسه الشفيع احمد محمد بصورة تفتقر للنزاهة والمؤسسية وهكذا بات الحزب يسقط في محك الاختبار الديمقراطي والشوري المرة تلو الأخرى فاعتمد على التحشيد والاستقرار على طريقة “فخ” داخل “فخ” ..
(5)
الوضع أعلاه حول الحزب إلى شلليات وتكتلات قبلية وجهوية ساعد عليها أسلوب الاستقطاب القبلي وابتداع اخذ البيعة من زعماء العشائر والقبائل حتى طغت القبلية والجهوية داخل الحزب وطغت واصبحت مهددا كبيرا لوحدة الحزب والسودان عموماً..وظهرت الترضيات السياسية والموازنات القبلية في التوظيف والتوزير والتنصيب بدلا عن معايير الكفاءة ونتيجة لذلك وغيره من الأسباب ظهر التفلت التنظيمي الذي قاد بدوره إلى ثلاثة إنشقاقات داخلية والرابع على ما يبدو في الطريق..
(6)
وكنتاج طبيعي للتطورات التي سبقت الإشارة إليها منذ تولية د. غازي صلاح الدين الأمانة العامة..ظهر اول انشقاق عنيف داخل الحزب في 1999 وهو ماعرف إعلاميا بالمفاصلة التأريخية التي قسمت الحزب إلى شطرين (المؤتمر الوطني، والمؤتمر الشعبي) واودع بسببها زعيم الحزب ومؤسسه وعرابه د. الترابي السجن، واصبحت العقلية الأمنية تتحكم في الحزب والدولة.
(7)
وكحصاد طبيعي لتلك الممارسات التي سبقت الإشارة إليها، جاء الإنشقاق الثاني الذي قاده المهندس الطيب مصطفى في 2005 نتيجة لخلافات تتعلق بإنفصال الجنوب حيث كان الراحل مصطفى ومعه قيادات أخرى أمثال د. بابكر عبد السلام ، ود. قطبي المهدي وآخرين يقودون خط الانفصال داخل الحزب الذي يدعو رئيسه للوحدة في مفارقة تنظيمية واضحة ما كان لها ان تكون …انسلخ مصطفى وكون حزب منبر السلام العادل بعد توقيع اتفاقية نيفاشا مع الحركة الشعبية في 2005.
(8)
ثم جاء بعد ذلك الانشقاق الثالث والذي قاده د. غازي صلاح الدين نتيجه لمجاهرته بنقد مؤسسات الحزب وممارساتها المتناقضة مع مبادي الشورى والمؤسسية واعتراضه على كثير من السياسات، ونتيجة لذلك ضاق به الحزب وبمن معهذرعاً وتم فصلهم وكونوا حزبا جديدا وهو حزب الإصلاح الآن.
(9)
الآن تتصاعد الخلافات بين إثنين من أبرز القيادات ، ونتيجة لعاصفة الخلافات الراهنة انقسم أعضاء الحزب إلى شطرين يتنازعان الرئاسة..شطر يقوده احمد هارون ، والآخر يتزعمه إبراهيم محمود..وقد وصلت الخلافات بين الشطرين منتهاها بعد أن بلغت الذروة ولايدري احد على وجه الدقة من سيبقى ومن سيخرج بجماعته من الحزب، ام سينجح الحزب في كبح عاصفة الخلافات العاتية التي تهدد بقاءه كحزب موحد ينتظره انصاره ليدخل معركة الديمقراطية الرابعة المقبلة..بينما تجتهد قيادات بارزة فيه امثال البروفيسور إبراهيم احمد عمر، والبروفيسور إبراهيم غندور إطفاء حرائق الإنقسام ومقاومة أسباب التشرذم كمن يصارع أسباب الفناء..