مقالات الرأي

يوم في السفارة السودانية بالرياض (٢/١)

عادل عسوم يكتب ل"5Ws-service"

بقلم/ عادل عسوم
سعيت إلى التقديم في موقع السفارة على النت، وتمت الموافقة بأن اكون في القنصلية في الرياض يوم الخميس اللاحق لانجاز معاملتي، وللعلم فقد كان آخر عهدي بمبنى السفارة القديم سنوات ليست بالقليلة، والسبب في ذلك اعتيادنا في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية على زيارة وفد السفارة كل عام تقريبا لانجاز معاملات السودانيين حيث يقيمون، ولم تنقطع زيارات وفود السفارة الا في عهد حكم قحت البائد.

انزلني سائق الليموزين -خطأ- أمام البوابة الشرقية فوجدتها مغلقة، ودلني شابان يسيران امامها بأن بوابة الجمهور تقع في الجانب الآخر من السور، وسرت راجلا إلى الجانب الآخر من السور الدائري الكبير، وعند مقارنتي خلال سيري لمساحة سفارتنا مع مساحات السفارت المجاورة؛ لاحظت كبر مساحة سفارتنا!
وصلت البوابة فوجدتها مشرعة ليس فيها من يمنع الدخول، وعلى اليمين شباك يجلس من خلفه موظف، ما ان أبرزت له الإيصال حتى أشار لي بالدخول إلى الصالة الرئيسة وناولني ورقة فيها رقم طويل، وفي الصالة كانت المفاجأة…
إذا بي بحشد كبير من النسوة والزغاريد (تجيب الطاش).
ياجماعة الحاصل شنو؟
قال لي شاب:
يوم الخميس دا ياخال هو يوم العرسان وعقودات الزواج، وما أن اكمل حديثه حتى تسابقت نسوة واطفال لتقديم (طباقة) جميلة منسوجة من الزعف الملون بالعنابي والاحمر والأزرق، عامرة بالحلوى والخبيز، لتصر كل امرأة أو طفلة بأن أتناول حلاواية او قطعة خبيز من طبقها.
ياااااه
صدقوني كم أسعدني هذا المشهد، لقد ملأني طاقة إيجابية لممن بي غادي (كما يقول الجيل الحالي)
وذكرني هذا المشهد مقولة أحبابنا المستنفرين عندما يغتنمون تاتشر او ثنائي من مقطوعي الطاري الجنجويد فيهتقون:
دا حقنا، دا حقنا.
وعليه فإن هذا المشهد المهيب الجميل حقنا بامتياز، وحقنا برااانا كمان، ويستحيل ان تجده في مبنى سفارة لشعب أو دولة، ولا أنكر بأن أذني إلتقطت بعض عبارات الاستهجان من شخص بالجوار:
-ياخي دي سفارة واللا بيت عرس؟!
ياخي الكواريك دي لازمتها شنو في السفارة؟!
ياخي الهلمة الجاية مع كلو عريسين دي لازمتهم شنو؟!…
فقلت باسما بعد أن تبين لي من لهجته بأنه من اهل الشمال:
-ياخي انت نسيت حميد رحمو الله لمن قال:
وإيه الدنيا غير لمة ناس في خير او ساعة حزن؟!
-لكن يا استاذ دي سفارة، مش بيت عرس.
-أيوة عارف، لكنها سفارتنا كسودانيين، واجمل مافينا تلقائيتنا البنعبر بيها عن افراحنا واتراحنا دي يا أخوي، وصدقني لو سافرت كتير وقارنت حاجاتنا دي مع حاجات الشعوب التانية حتعرف كثافة (الأنسنة) العندنا، ودي حاجات مؤصلة ومزروعة فينا زي ماغنو ناس عقد الجلاد:
الناس في بلدي يصنعون الحب
كلامهم انغام
ولونهم بسام
وحين يتقابلون
ينطقون بالسلام
عليكم السلام.

جلست انتظر دوري وكان الرقم في ورقتي طويلاً في دلالة على كثافة الحضور، ومافتئت الزغاريد قاجة، ولاتمر ساعة إلا ويأتي convoy جديد لعروسين، وامتلأت الصالة عن آخرها بأهل العرسان والمراجعين…
وفجأة توجت الأنظار إلى مدخل الصالة، فإذا بقادم في نهاية الأربيعنات، طويل القامة أنيق الملبس، قال لي احدهم بأنه المستشار مصطفى الحسين الشريف، وهو القنصل، فشرع الرجل يلاطف الناس في الصالة ويبارك للعرسان، وعندما اقترب مني وقفت وصافحته فسألني مازحا:
-عريس واللا شنو؟
فضحكت وضحك من حولنا، واخبرته ومعي آخر قال بأنه جاء من النعيرية بأننا جئنا لانجاز معاملة، فالتفت إلى مدير مكتبه واسمه سامي وقال:
بالله اعمامك الجايين من بعيد ديل خلوا بالكم منهم وانجزوا ليهم معاملاتهم بسرعة، أعمامنا ديل أكيد بيكونوا راجعين في يومهم دا زاتو، وما أن أمنت ورفيقي على كلامه؛ حتى اشار لنا بمرافقته إلى مكتبه، وهناك ذكرنا له التفاصيل فوقع على أوراقي وأوراق رفيقي وناولها لمدير مكتبه وطلب منه ان يدلنا على مكان انجاز الخطوة التالية ويتابع معنا، ولكن عندما هممنا بالخروج لم نجد إلى ذلك سبيلا، فقد امتلأ المكتب بالعرسان وذويهم، حيث يدخل أربعة من العرسان ووكلائهم كل مرة ويتم إيصاد الباب، فقال القنصل باسما:
-خلاص مادام قفلوا الباب أحضروا معانا لمة عرسانا ديل.
وشرع الرجل في مقدمة بليغة ابتدرها قائلا:
مرحب بيكم في سفارتكم، ومبروك لكل العرسان، وان شاء الله بالمال والعيال والسعادة الدايمة يااارب، واذا بطرق (بعكاز) على باب المكتب، فطلب السيد القنصل بفتح الباب، فأطل سبعيني وبيده عكازه وقال:
ياسعادة القنصل، انا بت اختي عروس معاكم هنا وأنا جايي معاها، فقال القنصل:
حبابك عشرة ياعمنا، وماعندنا مانع تحضر معاها لكن بشرط.
-قول الشرط سعادتك.
-ماحتحضر معانا هنا إلا نعقد ليك مع العرسان ديل.
ما كان من عمك إلا أن قفزة شاب ثلاثيني:
حرررم انا جااااهز، يلا جيبوا لي العروس، فضحك كل الحضور وأطرقت بنت اخته العروس،
وقبل بدء القنصل في مباشرة عمله قال:
يا أحباب براكم شفتو الزحمة دي، تاني ان شاء حيكون الحضور في المكتب هنا للعريسين والوكلاء بس، لأنو شغل مطابقة الاوراق دي عاوز تركيز شديد، فأمن الحضور جميعا على كلامه، وشرع يطابق اوراق العرسان، وكان يشير أحايين إلى المصحف ليطلب من البعض القسم عليه، فمنهم من لاتوجد لديه شهادة وفاة الوالد بإعتباره الوكيل الأحق بالوكالة، فينوب عنه آخر من الآسرة ويقسم، والحق أقول كان يسعى دوما إلى التيسير دون تعسير، وظل يوصي كل عروسين بعد الفراغ من المطابقة -كل على حدة- بحقوقه وواجباته تجاه الآخر ثم يقول:
احذروا من الطلاق، فهو ابغض الحلال.
وياعريس أوصيك بي كلام ربنا:
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.
كم اعجبت بأسلوب هذا القنصل الشاب، وكم راقني حديثه وقدرته على ايصال مراده للجمهور، ودربته امتصاص أيما نقمة غضب من المراجعين، ودون ذلك سعة صدر يبدو جليا انها طبع فيه وجبلة، إذ عندما وصل إلى الصالة الرئيسة؛ تداعى له البعض يشكون بأن الصفوف طويلة وعدد الموظفين قلة، فتقبل شكواهم برحابة صدر، بل طبطب على اكتاف بعضهم يعينه على ذلك طول قامته ويقول:
أوعدك ان شاء الله دقايق وامرك مقضي، وان شاء الله تنتهي من معاملتك دي بسرعة وماتطلع من (سفارة بلدك) دي إلا وانت مبسوط وراضي تماما، وبالفعل يأمر بزيادة عدد موظفي المنافذ، ويتم تقسيم الصف الطويل إلى أكثر من صف، وأذكر عندما وقفت في صف تسديد الرسوم؛ إذا بالشبكة تنقطع فجأة، واضطررنا للوقوف حتى الساعة الثالثة عصرا، وبدأ الناس في التململ، فاليوم خميس، ولن يكون هناك دوام إلا الأحد، فجاء السيد القنصل وخاطب الناس قائل:
يا أحباب الشبكة دي ما قاطعة من عندنا نحنا، لكن أنا اتواصلت ووعدوني انو أكيد حترجع قريب، وإن شاء الله مافي زول فيكم حيطلع من هنا إلا ومعاملتو مقضية وهو راضي تماما، ونحنا هنا كموظفين ما حنطلع إلا بعد تنتهوا كلكم وتستلموا اوراقكم النهائية ان شاء الله.
التحية لأمثال هذا القنصل الشاب، وليت أولي الأمر يختارون دوما أمثاله في سفاراتنا، انها نوافذنا التي نطل من خلالها من مهاجرنا إلى ربوع وطننا الحبيب، فلتكن (شبابيك) تفتح الروح ضلفتين.
adilassoom@gmail.com

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى