
بقلم/ د. حيدر معتصم
مدير مركز الخرطوم للحوار
(1)
جاء مقال رئيس تحرير موقع 5Ws-service أحمد يوسف التاي امس تحت عنوان الإقصاء ..سبب الداء وأس البلاء.. وهو في تقديري موضوع مهم للغاية فكان لابد من تعقيب خاصة وأن السياسة تحولت في بعض جوانبها لاداة استئصال وتخطت الاقصاء..
في الأنظمة الديمقراطية المستقرة، حتى أشد صور الخصومة السياسية تبقى مقيدة بسقف القانون والدستور، فلا تتحول إلى تهديد وجودي للدولة أو المجتمع. فالإقصاء هناك مجرد محاولة لتهميش الخصم سياسيًا ضمن إطار قانوني مشروع، بينما تظل مؤسسات الدولة محايدة وضامنة للتنوع. أما في السودان، فقد تحولت السياسة إلى أداة استئصال، حيث يسعى كل طرف إلى محو الآخر من المشهد السياسي والاجتماعي، مما أدى إلى ضعف الدولة وتهديد الأمن القومي.
1. الفارق الجوهري بين الإقصاء والاستئصال
التعريف :
الإقصاء هو محاولة إبعاد الخصم سياسيًا أو تهميشه في دوائر القرار.
الإستئصال محاولة نفي وجود الخصم سياسيًا واجتماعيًا وربما جسديًا.
البيئة : الإقصاء يحدث في أنظمة بها مؤسسات راسخة، حتى لو كانت عدائية.
الإستئصال يحدث في بيئة دولة هشة، لا قانون ولا مؤسسات ضابطة.
الأدوات : الإقصاء تحكمه قوانين، انتخابات، دعاية، إجراءات سياسية.
الإستئصال يحكمه العنف، الانقلابات، التطهير العرقي أو السياسي، السلاح.
النتائج : الإقصاء تحكمه خصومة سياسية، مع بقاء النظام مستقرًا.
الإستئصال تحكمه فوضى، انهيار الدولة، دورات انتقامي وصراعات مسلحة.
2. لماذا السودان أقرب إلى “الاستئصال”.. ؟
1. غياب المؤسسات:
لا دستور دائم، ولا برلمان مستقل، ولا سلطة قضائية قوية تكبح التطرف.
2. الهوية كسلاح سياسي: استغلال الانتماءات الإثنية والقبلية والدينية كسلاح في الصراع السياسي.
3. ثقافة السلطة كغنيمة:
كل طرف يصل للحكم يعامل الدولة كملك شخصي، فيبدأ بعملية تطهير شاملة للخصوم.
4. العنف المسلح:
الصراع السياسي في السودان مرتبط بالقوة العسكرية والميليشيات، مما يجعل السياسة امتدادًا للحرب.
5. دورات الانقلابات:
لأن الاستئصال يُفقد النظام التوازن، الانقلاب يصبح الحل الوحيد لتغيير السلطة.
3. الاستئصال = تطرف سياسي ممنهج
ما يحدث في السودان ليس مجرد تنافس، بل حرب وجود: كل طرف يسعى لمحو الآخر من الخريطة السياسية والاجتماعية.
هذا يفسر لماذا لا تنجح أي تسوية سياسية؛ لأنها لا تقوم على عقد اجتماعي حقيقي بل على صفقات مؤقتة تنهار سريعًا.
4. مقارنة مع الديمقراطيات العريقة
في الدول الديمقراطية: حتى عندما تصل الخصومة إلى ذروتها (كما في أزمات أمريكا بين الجمهوريين والديمقراطيين مثلًا)، هناك شبكة أمان قانونية:
قضاء مستقل.
انتخابات نزيهة.
حرية إعلام ومجتمع مدني.
دستور فوق الجميع.
هذه الشبكة تمنع الاستئصال وتحوله إلى مجرد إقصاء سياسي محدود الأثر.
5. الاستنتاج:
السودان يحتاج إلى “ثقافة سياسية جديدة”
السودان لن يخرج من دورة الانقلابات والحروب إلا إذا انتقل من عقلية الاستئصال إلى عقلية المنافسة المشروعة.
وهذا يتطلب:
1. بناء دولة قانون قوية تحمي الجميع.
2. تعليم سياسي وثقافي يعيد تعريف السياسة كفن إدارة التنوع.
3. تحييد الدولة عن صراعات الأحزاب والمكونات.
4. تفكيك العنف المسلح لصالح مؤسسات مدنية.
الخلاصة :
نعم، “الاستئصال” مصطلح أكثر دقة وعمق لفهم ما يحدث في السودان؛ لأنه ليس مجرد محاولة لتهميش الآخر، بل مشروع لإزالته من المشهد سياسيًا واجتماعيًا وحتى جسديًا. هذا التحول من الإقصاء إلى الاستئصال هو جوهر أزمات السودان ويشرح لماذا فشلت كل محاولات الانتقال الديمقراطي.