مقالات الرأي

الواقعية و الافتراضية في السياسة السودانية

فايف دبليوز سيرفس

بقلم / زين العابدين صالح عبد الرحمن

(خبير إعلامي، باحث في الشأن السياسي)

المفكر الأمريكي في الدراسات الاجتماعية و السياسية صمويل هنتنتون يقول في كتابه ” النظام السياسي في مجتمعات متغيرة” عن عملية التحديث السياسي في السودان التي ربطها بالمؤسسات التي تقود عملية التحديث في المجتمعات بعد التخلص من الاستعمار، و يشير إلي أن المؤسسة العسكرية في كل من السودان و باكستان قد قادتا عملية التحديث السياسي، و يرجع ذلك لسيطرة المؤسسة العسكرية على النظام السياسي في كلا البلدين.. المقولة نفسها تفتح أبوابا للحوار السياسي، ليس من خلال المنظور السائد في الثقافي السياسية في السودان.. و لكن المسألة تحتاج إلي قراءة بفكر جديد بعيدا عن التحيزات السياسية.. و أيضا بعيدا عن العالم الافتراضي الذي سيطر على خطاب العديد من القوى السياسية..

معلوم أن صمويل هنتنتون يتناول مسألة التغيير و التحديث في الدول من خلال العلاقة بين عملية المشاركة الجماهيرية في المؤسسات السياسية، و عملية التحديث في ذات المؤسسات السياسية.. و هذه المعادلة بين تحديث المؤسسات و اتساع دائرة المشاركة الجماهيرية في المؤسسات هي التي تخلق عملية الوعي السياسي التحديث و التغيير في المجتمعات.. فإذا نظرنا للواقع السياسي في السودان قبل الثورة نجد أن الأحزاب السياسية كانت تعاني حالة من الضعف الشديد، و لم يحدث فيها تغيير لا على مستوى الفكر و لا على مستوى القيادات السياسية، الأمر الذي أصابها بالجمود، هذا الجمود يجعل دورها في عملية التغيير ضعيف جدا، و بعد أنتصار الثورة ظلت تعاني من حالة الضعف، و التي جعلتها تفشل في إدارة الأزمة، و أيضا الشروع في تحقيق عملية التحول الديمقراطي..

أن تغبيش الوعي هو أحد العوامل التي تتسبب في الفشل.. لأنه يملك الجماهير شعارات زائفة ليس لها وقعا في العملية السياسية.. في مقدمة مقال لأحد اساطين الحزب الشيوعي تيسير حسن ادريس في جريدة الميدان يستدل بمقولة لينين ( لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية) إذا فترضنا أن ثورة ديسمبر حركة ثورية بالمفهوم الماركسي تصبح النظرية هي ” الماركسية” التي تؤسس على الصراع الطبقي.. و من يقود هذا الصراع الطبقي في النظرية ” البروليتاريا” لكي تؤسس بالثورة ” ديكتاتوريها” إذا الثورة في المفهوم الماركسي ليست هي الثورة التي يتحدث عنها عامة السودانيين الذين ينتمون لتيارات فكرية متعددة.. و إذا عرجنا إلي البعثيين نجدهم يرفعون شعار الديمقراطية رغم أنهم كانوا مؤيدين لنظامي البعث في كل من العراق و سوريا.. و الإثنان كانا نظامين ديكتاتورين أكثر قمعا من نظام الإنقاذ، بل حزب البعث الأصل ظل يعلق صورة صدام حسين في داره في الفترة الانتقالية، كيف يقود الحزب من خلال التناقض أن يقود عملية تحول ديمقراطي، لذلك ظل الحزب يستبدل الفكر الذي يعتبر أداة التغيير بالشعارات.. هذا التناقض في المواقف يؤكد ضعف الناتج الفكري و الثقافي عن الديمقراطية، و بالتالي له أثر كبير في الاخفاقات السياسية، و الفشل في إدارة الصراع..

أن واقع الحال في الحزبين الكبيرين ” الاتحادي و الأمة” لا يختلف عن أزمة اليسار، بل أكثر عمقا خاصة في الكتلة الاتحادية المتشظية، و هي كتلة كانت تاريخيا تمثل بؤر الوعي و النور من خلال دورها في الجمعيات الأدبية، و من بعد في مؤتمر الخريجين، و لكن هذا الدور بدأ يتراجع منذ حكم النظام المايوي، و ضعف أكثر بعد أن تحكمت قبضة الطائفة عليه بعد انتفاضة إبريل عام 1985.. حيث ضعف النشاط و الفاعلية السياسية للحزب، و اصبح القرار عند فرد واحد و الكل أصبحوا تابعين لا دور ريادي لهم في العملية السياسية.. و معروف أن الطائفة دائما تصعد عناصر متواضعة في قدراتها حتى يسهل السيطرة عليهم، لذلك لا تجد لهم دورا في العملية السياسية غير انتظار انتخابات غير معروفة التاريخ.. حزب الأمة استطاعت الإنقاذ أن تخترق الحزب و تخرج منه فروع كثيرة، بالضرورة تكون قد أضعفت دور الحزب، السبب الأخر سيطرة زعيم الحزب على الإنتاج الفكري و الثقافي، الأمر الذي جعل تأثيره محدودا لعدم تفاعل العضوية معه بالدراسة و التناول النقدي، و الذي يوسع دائرة الوعي و الثقافة، و بعد رحيل زعيم الحزب أصبحت قواعد الحزب مقسمة إلي ثلاث شعب كتلة مؤيدة للميليشيا بقيادة رئيس الحزب و الأمين العام، و كتلة مناهضة و تقف مع الجيش بقيادة نواب الرئيس، و كتلة ثالثة متأرجحة بين الموقفين.. بالضرورة يؤثر في فاعلية الحزب و دوره في حل الأزمة السياسية..

القوى السياسية الجديدة خاصة ” المؤتمر السوداني و التجمع الاتحادي” هي قوى جديدة و قياداتها حديثة العهد بالعمل السياسي، و وجدت نفسها فجأة على قمة العمل السياسي، و تستحوذ على حقائب دستورية، جعلتها تكرس كل جهدها على كيفية الحفاظ على موقعها دون الآخرين، و نسيت دورها في عملية التحول الديمقراطي، و أيضا نسيت الرهان على السلطة هو رهان على الصراع السياسي المستمر، و أن تجربتها القصيرة لا تؤهلها على النجاح في عمليات التكتيك و المناورة، مما جعلها تدخل في صراع مستمر أبعدها خارج السلطة.. و بدل أن تراهن على الجماهير التي صعدتها للسلطة، راهنت على الميليشيا و الخارج أن يكونا روافع لها، لذلك ظلت مكرسة نشاطها في الخارج بعيدا عن الحركة الجماهيرية..

الحركة الإسلامية استطاعت أن تستفيد من حالة الضعف السياسي، رغم أن تجربة ” الإنقاذ” جعلت الإسلاميين مقسمين إلي كتل و مجموعات مختلفة و متباينة.. و أيضا استفادوا من تبريرات اخطاء القوى السياسية و رميها على الإسلاميين، الأمر الذي أدى لتغيير المعادلات السياسية خاصة بعد الحرب.. الجيش باعتباره مؤسسة واحدة ذو قيادة موحدة جعلته يسيطر على زمام الأمر العسكري و السياسي.. و يصبح هو مصدر الأحداث، و أختيار الأجندة التي تطرح في الشارع السياسي ، و تعينه لرئيس وزراء لكي يقوم بالدور السياسي، يعتبر أيضا جزء من كيفية إدارة الصراع عبر أطراف متعددة يستطيع التحكم فيها، الأمر الذي فشلت فيه القوى السياسية.. فهل من خلال التجربة تصدق رؤية التحديث عند صمويل هنتنتون، أم أن الواقع بعد الحرب سوف يأتي بمعادلات جديدة.. نسأل الله حسن البصيرة..

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى