
بقلم/ أمين الجاك عامر المحامي
في نهايات سبعينيات القرن الماضي، وبينما كنا طلابًا في المرحلة الثانوية بمدرسة مدني الثانوية، كانت مادة التاريخ والجغرافيا تثير فينا شغفًا خاصًا، ومن خلال الدروس عن جغرافيا وسكان السودان، كانت مدينة وادي حلفا القديمة، تلك المدينة النوبية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، والتي احتضنت حضارات تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد.
تقع مدينة حلفا القديمة في أقصى شمال السودان، على ضفاف نهر النيل، ما جعلها مركزًا حضاريًا وتجاريًا هامًا عبر العصور، وموطنًا لآثار نوبية وفرعونية ومسيحية لا تُقدّر بثمن.
لكن هذا المجد الحضاري تلقّى ضربة موجعة في ستينيات القرن الماضي، عندما غمرت مياه بحيرة السد العالي هذه المدينة العريقة، ودفعت بأكثر من خمسين ألفًا من سكانها إلى الهجرة والتهجير نحو الشرق، حيث تأسست “حلفا الجديدة”.
قبل نهاية عامنا الدراسي الثاني، وبفضل نشاطنا في جمعية نوادي العلوم، أخبرنا أستاذنا المصري عادل رزق عن تنظيم رحلة علمية إلى مصر.
كانت الترتيبات تشمل التحرك بالباصات من مدني، والقطار من الخرطوم إلى حلفا، ومن ثم الباخرة النيلية إلى أبو سمبل، فأسوان، وصولًا إلى القاهرة.
البرنامج أشعل حماسنا، وتوافد الطلاب للمشاركة، حتى صار الحدث الأبرز في نهاية العام الدراسي.
انطلقت رحلتنا من أمام بوابة المدرسة، محملين بالأشواق والمستلزمات الغذائية والطبية. مررنا بعطبرة، المدينة الصاخبة بحركة العمال، حيث توقف القطار فيها لأخذ المياه لباقي العاملين في المحطات القادمة، وفيها شربنا شاي الصباح مع اللقيمات والقهوة، وتجولنا داخل هذه المحطة التاريخية.
مع اشتداد حرارة الجو وضيق التنفس داخل القطار، قررنا اعتلاء سطح القطار في المحطة القادمة التي أخبرنا بها مفتش القطار (أبو حمد)، في مغامرة مجنونة، سرعان ما انتهت مع أول محطة نُمرَة (1)، وهي “سندة” – محطة من بين ست محطات تأخذ نُمَر في الصحراء ما بين أبو حمد وحلفا – بعد أن غطتنا الرمال وأجبرتنا على العودة مثقلين بالغبار.
وصلنا إلى مدينة حلفا القديمة، فوجدناها بقايا متفرقة لقرى ومحطة قطار ومبانٍ قليلة، لا تُشبه ما تخيلناه من دروس التاريخ. وعندما لم نجد أي حمامات في محطة القطار، ذهبنا للاغتسال بمياه النيل، وهناك التقينا أحد سكان المدينة، الذي حمل في عينيه حزنًا عميقًا. روى لنا كيف غرقت مدينتهم تحت الماء، وكيف تم تهجيرهم قسرًا، لكنهم تمسكوا بأرض الأجداد. قال بصوت مفعم بالإصرار:
“نحن تمسكنا بأرض أجدادنا رغم التهجير، فهذه أرض لا نفرّط فيها.”
عدنا إلى المحطة لنجد زملاءنا من الطلاب يعانون في البحث عن مكان للمبيت، فقررنا السير نحو منطقة الباخرة، حيث نمنا في العراء. استيقظنا على صياح نسوة بسبب إشاعة عن وجود “مرفعين”، ما سبب فوضى في مكان المبيت تعذّر معها النوم، وانتهت بعدد من المقالب والمزاح والضحك.
من حلفا، استقللنا الباخرة إلى أبو سمبل، ثم القطار إلى أسوان، حيث أقمنا في بيت الشباب، وكان مجهزًا بمرافق فندقية حديثة أدهشتنا. أمضينا خمسة أيام بين الآثار والأسواق، ثم انطلقنا إلى القاهرة، فأقمنا في بيت الشباب بالمنيل، وتجولنا في الأهرامات والمتاحف والسينما. زرنا جريدة الأهرام، حيث التقينا بالصحفي صلاح جلال وآخرين.
كما شملت الرحلة زيارة مدينة بورسعيد، والإسماعيلية، وخط بارليف، والإسكندرية، ومصيف أبو قير، إلى جانب مشاريع الأمن الغذائي في المنوفية، وميت أبو الكوم، وميت غمر. وعدنا بعدها إلى السودان نحمل ذكريات لا تُقدّر بثمن، وصورًا التقطناها بكاميرات كوداك، معظمها فُقد لاحقًا بسبب هجوم المليشيات على مدينة مدني مؤخرًا.
مرت السنوات مع المشغوليات، ولم تسمح لنا الظروف بتكرار التجربة، وتوقفت قطارات السكة حديد، لكن الحنين إلى حلفا القديمة ظلّ متقدًا.
مؤخرًا، قررت العودة إلى ذات الطريق، برفقة صديق من سكان أبو حمد، وكانت المفاجأة أنني وجدت حلفا القديمة مدينة نابضة بالحياة.
شهدت المدينة نهضة عمرانية واقتصادية كبيرة، وباتت محطة جمركية مهمة، وسوقًا نابضًا يرتاده المعدّنون، وملتقى للتواصل التجاري مع مصر. الكهرباء مستقرة، والسكان في قمة الرقي والكرم. عرفت أن المدينة باتت مرتبطة بطريق بري مباشر إلى وسط السودان، وآخر بالضفة الأخرى، وتشهد في هذه الأيام – بعد قيام الحرب في وسط السودان – نهضة صناعية متسارعة، واحتضنت نازحين من أهلها ومن وسط السودان (مدني والخرطوم) بكل حفاوة.
يحلم أهل حلفا اليوم بطريق بري مباشر يربطها بأبو حمد وبورتسودان، لتسهيل الوصول إلى الميناء، كما يحلم أهل بورتسودان بوصول مياه النيل إليهم عبر أبو حمد، وهو حلم مشروع تأخّر كثيرًا تنفيذه. وهناك مجال واسع للتنفيذ في خطط إعادة الإعمار عن طريق عقود الـ BOT المحلية والعالمية، والتي سنتناولها لاحقًا بالتفصيل في سياق دعم إعادة الإعمار في البلاد.
كانت رحلتنا إلى حلفا القديمة ومصر مؤخرًا أكثر من مجرد زيارة، كانت درسًا حيًا في التاريخ، والوطنية، والانتماء. رأينا كيف يمكن للذاكرة أن تقاوم الغرق، وكيف يعود الأمل من تحت الركام.
وها هي حلفا القديمة تعود من جديد… وإن طال الزمن