مقالات الرأي

في محراب العدل، لا يُؤاخذ البريء بجريرة غيره

5Ws-service

بقلم / الطيب مضوي شيقوق

(كاتب_ محامي- مستشار قانوني)

حين تضطرب المقاييس وتعلو أصوات الغضب، يبقى العدل الحقيقي ماثلًا في مبدأ لا يقبل المساومة: أن لا يُؤاخذ المرء بجريرة غيره. هذا هو الخط الفاصل بين القصاص والانتقام، بين إنصاف الفرد ومعاقبة الجماعة. وقد جعله الوحي قاعدة قاطعة: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، ليكون حصنًا للبراءة، وصمام أمان لمن لا يد له في الجريمة.

لقد شهد التاريخ عبر مراحله المختلفة كيف حمل الأبرياء أوزارًا لم يرتكبوها، فقط بسبب انتمائهم أو نسبهم. هذا الخروج عن مبدأ العدالة الفردية كان سببًا في تفاقم الظلم وتفاقم الانقسامات الاجتماعية، مما أدى إلى معاناة متواصلة حيث يُحاسب الإنسان على ما ليس له يد فيه، بدلاً من أفعاله الخاصة.

في التجارب البشرية المتعددة، كشفت الوقائع أن الانحراف عن مبدأ المسؤولية الفردية غالبًا ما يؤدي إلى نتائج كارثية على الصعيدين القانوني والاجتماعي. فعندما يُستبدل منطق العدالة الفردية بمنطق التعميم الجماعي، يُعرض الأبرياء لانتهاكات خطيرة تمس حقوقهم الأساسية، وتُزرع بذور الفرقة والتنافر داخل المجتمعات. إن تحميل الفرد تبعات لا يد له فيها، لمجرد انتمائه لجماعة أو بيئة بعينها، يُعد انتهاكًا صارخًا لمبادئ العدالة الطبيعية، ومخالفةً واضحة للمعايير الأخلاقية والقانونية التي تضمن كرامة الإنسان وحقه في محاكمة عادلة تُبنى على الفعل لا الهوية.

إن من تمام العدل أن يُحاسب الجاني وحده، لا أن نُذيب الحُرمات في أتون الثأر، ولا أن نُلبس البراءة رداء الجريمة. فالعقوبة الجماعية، وإن بدا ظاهرها حزمًا، إنما تُعمّق الجراح وتُورّث الأحقاد، وتُجهز على ما تبقّى من نسيج الوطن.

وقد رسّخت الشريعة الإسلامية هذا المعنى منذ فجرها، حين قال عمر بن الخطاب: “لا يُؤخذ أحدٌ بجريرة غيره.”، وجاءت مواثيق القانون الدولي الإنساني، كاتفاقيات جنيف، تؤكد ذات المبدأ، مانعةً أي شكل من أشكال العقاب الجماعي، ومحصّنة حقوق الفرد ضد التعدّي باسم الجماعة.

وإذا كانت مجازر البوسنة ورواندا قد علمتنا شيئًا، فهو أن التعميم في العقاب لا يولد عدلًا، بل مذابح. لا يقيم دولة، بل يُقوّضها. ولا يؤسس سلامًا، بل يزرع فتنة جديدة في تربة لم تندمل بعد.

فلنحتكم إلى ميزان الحق، لا كفة الهوى. ولنُحيِ فينا يقظة الضمير، فلا نظلم أحدًا باسم الانتماء، ولا نُدين أحدًا بجريرة غيره. فإن أردنا وطنًا يسوده العدل، ويأمن فيه الإنسان، فعلينا أن نُعيد الاعتبار للقاعدة البسيطة، العظيمة في آن: كل نفس بما كسبت رهينة.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى