
بقلم/ د. حيدر معتصم
(مدير مركز الخرطوم للحوار)
المدخل:
كثيرًا ما نتحدث عن الدولة كمفهوم سياسي وإداري، ونغفل أنها في جوهرها ليست سوى تجسيدٍ لإرادة المجتمعات، تتشكل من مصالحها، وتُبنى من مواردها، وتتقوّى بترابطها.
إن واحدة من أخطر اختلالات الوعي السياسي في السودان أن الثورة دائمًا تُقاس بموقفها من السلطة، لا بموقفها من المجتمع، وأن بناء الدولة يبدأ من رأسها لا من قاعدتها، وأن مصالح الناس تأتي لاحقًا بعد توزيع المناصب!
لكن الحقيقة أن المجتمعات لا تُبنى من أعلى، بل من مصالحها المتشابكة.
وأن الثورة الحقيقية ليست في إسقاط الأنظمة فحسب، بل في توطين التنمية وربطها بالمجتمعات المحلية، لتصبح الدولة دولة الجميع.
المقارنة المفصلية:
هناك فارق جوهري بين ثورة شعبية يقودها المجتمع نحو مصالحه، وثورة أيديولوجية تقودها نخب لتحقيق مصالحها الحزبية.
الثورة الشعبية تستند إلى واقع الناس وأحلامهم وجراحاتهم.
الثورة الأيديولوجية تستند إلى تصورات نظرية وأجندات فوقية.
حين تتقاطع المصالح… يُولد الوطن:
حين نربط الموارد من صمغ و قمح الشمالية وسمسم و ثروة حيوانية و معادن…، لا نؤسس فقط لقيمة اقتصادية، بل نبني معنى الوطن.
وحين تلتقي الزغاوة والرزيقات على مائدة وطنية تعلي من شأن التعليم والصحة والاستقرار، فإننا لا نحقق فقط تعايشًا، بل نُفعّل الأمن القومي من الداخل.
وهكذا، يصبح الوطن شبكة مصالح متكاملة، لا تجمع الناس فقط بالمشاعر، بل بالحاجة المشتركة، بالتنمية المتبادلة، وبحلم لا يتحقق إلا إذا كسب الجميع.
سردية المصالح المشتركة:
لكي تكون لدينا دولة، علينا أولًا أن نؤمن بأن:
مصلحة الفرد لا تتناقض مع مصلحة الجماعة.
وأن مصلحة القبيلة لا تتناقض مع مصلحة الإقليم.
وأن مصلحة الإقليم لا تتناقض مع مصلحة الدولة.
بل هي جميعًا مراتب متكاملة من المصالح، لا تُبنى إلا حين يتوقف الناس عن رؤية الوطن كغنيمة، ويبدؤون في رؤيته كشبكة علاقات ومصالح وتكافل وحقوق.
كيف تُبنى السردية الجديدة؟
عبر الإعلام الذي يروي قصصًا حقيقية من القرى والبوادي والأسواق.
عبر مناهج التعليم التي تعلّم الأطفال أن الوطن ليس خريطة، بل روابط.
عبر المبادرات الاقتصادية التي تربط منتجي الأقاليم بأسواق وطنية.
عبر مؤسسات مجتمع مدني تراقب وتبني وتحمي هذه السردية.
الخاتمة:
ليست المشكلة في قلة الموارد، بل في غياب التصور الذي يجعل من هذه الموارد أساسًا لربط الناس ببعضهم وبالدولة.
وحين يُعاد ربط مصالح الناس ببعضها البعض، وبمصير الدولة ككل، تنشأ دولة حقيقية… قوية، عادلة، وراسخة.
فحين تبني المجتمعات مصالحها، فهي لا تبني اقتصادات فقط… بل تبني الأوطان.

