مقالات الرأي

من أجــلِ الحـقيــقــةِ فحسب …تدابيرُ وذرائعُ لإخراجِ الجبهةِ من الحُكم (٥)

فايف دبليوز سيرفس

بقلم / أيوب صديق

(خبير إعلامي- مذيع B.B.C الأسبق)

(المقال الخامس)

ذكرت في آخر المقال الرابع أنني تركتُ طلب مقابلتي القائدَ العام عند اللواء محمد عثمان مالك رئيس إدارة التوجيه المعنوي. وبعد (أمشي وتعال) في المرة الثالثة وفور وصولي مكتبه وجدتُ عددًا من كبار الضباط معه. يبدو أن لديهم موعداً مع القائد العام. فسملوا عليَّ مُرحبين بي؛ إذ قدمني لهم اللواء محمد عثمان مالك، حيث عرفوني من الاسم. وبُعيد فترة وجيزة، أخبرني اللواء محمد عثمان برد القائد العام على طلبي مقابلته، فقال لي إنه يعتذر على عدم إمكانية إجراء المقابلة. وقال لي قولاً غريبًا ما توقعته، وهو أنني إذا أردتُ أن أسألهم عن حربهم في الجنوب فيمكن أن يتحدثوا لي عنها. وكانت النقاط التي طلبتُ الإجاباتِ عنها لا تنحصر في الحرب في الجنوب وإن كانت الحربُ في الجنوب إحداها وأهمها,
في تلك الاثناء جاء عددٌ من الرجال بثياب مدنية، ويبدو أنهم سياسيون، ولهم موعدٌ مُسبق مع القائد العام، حيث سُمح لهم بالدخول إلى مكتبه، وظل العسكريون منتظرين. ومما يبدو أنهم في انتظار اكتمال عددهم. فقلتُ في نفسي إن هذه فرصة لأثير معهم بعض النقاط وبالذات أهم نقطة في خاطري وهي مذكرتُهم لرئيس الوزراء، التي كان لها أثر كبير فيه شخصيا. فقلتُ لهم طيب؛ لما رئيسكم لم يوافق على مقابلتي، أرجو أن تسمحوا لي أن اتحدث معكم إن كان عندكم وقت، ليس بصفتي من الإذاعة البريطانية، بل بصفتي سودانيا فقط فرحبوا بطلبي. فقلتُ لهم إن مذكرتكم التي قدمتموها لرئيس الوزراء هي عبارة عن انقلابٍ عسكري ناقص التنفيذ، وقد يُنفذ مستقبلا متى ما رأيتُم ذلك. ولو كنتٌ في مكان رئيس الوزراء لطلبتُ منكم سحبَ هذه المذكرة أو استقيل.
فشعرتُ أن قولي هذا أثار شيئًا من سُخرية أحدهم، فقال لي إن رئيس الوزراء لن يستقيل، وهو لا يعرفُ اي شيء عن حالة الجيش التي حملتنا على تقديم المذكرة له، وبالذات حالة قواتنا في الحرب. فإننا اضطررنا إلى رفع تلك المذكرة إليه بسبب الحالة التي آلت إليها البلاد، وبالذات حالة الجيش، الذي يعاني نقصا في كل شيء. وأن هذه الحكومة قد أذلتِ الجيش إذ لا لاً لم يعرفه من قبل بسبب اخفاقها في توفير ما يحتاج إليه في هذه الظروف البالغة الخطورة. وقال لي أحدهم؛ إن قواتنا تُعاني من نقصٍ مريع في السلاح، وأفرادها جياعٌ وحُفاةٌ، ومعنوياتهم متدنية، وإذا مات أحدُهم نظرنا إلى حذائه فإذا كان بحالة تصلح لإلباسه زميلاً له حافياً فعلنا ذلك. هذه حالةُ قواتنا في الجنوب، وكم استغاث قادتُها هناك بالحكومة ولم تقع استغاثاتهم على مسمع ٍمنها. وقال لي أحدهم:(على الطلاق يجي قائد يقاتل في الجنوب من (المغسة) يقلب الحكومة دي). وبلغ الأمرُ بأحدهم أن قال لي إنه إذا استمرت هذه الحكومة بهذه الطريقة فإنهم لن يسمحوا لها بالبقاء في الحكم لستة أشهر. وهذه أقوال لا يقولها من العسكريين إلا من بلغ بهم الغضبُ والإحباطُ مداهما، إذ كانوا حقا في غاية الغضب، مما يجري لقواتهم في أحراش الجنوب.
وبمناسبة جوع القوات في الجنوب، وانا أُعد هذا المقال، تذكرتُ ما قاله لي أحد الإخوةِ السفراء، عما قاله له أحدُ القادة العسكريين عن حالهم في الجنوب: قال له إنني كنتُ على رأس مجموعة، وشعرنا بالجوع الشديد، وليس معنا أي شيءٍ يؤكل، فوجدنا دكانا مُغلقا فقررنا كسر بابه، لعلنا نجد بداخله شيئا يؤكل. فكسرنا بابه فلم نجد فيه غير(سيطان عنج) فقررنا من فرط الجوع غَلْيَها في الماء – أي سَلقَها ــ وشُربَ سليقتها، على ما هي مطليةٌ به من قَطِرانٍٍ وصَمغ وغير ذلك، ففعلنا ذلك وكانت اسناننا تلتصق ببعضها بسبب الصمغ وبقية المواد التي كانت مطلية بها.
قلتُ لأولئك الإخوة العسكريين في تلك الجلسة، إنه يجري الحديث عن تغيير قد يحدث في الحكومة، والآن في ضوء ما يُقال تجري مباحثاتٌ في القصر، قد تفضي إلى تشكيل حكومة جديدة، ويُقال إنها تجري على أساس مذكرتكم تلك، وإنها ستُشكل بناء على بنود اتفاق ما بات يٌعرف باتفاق الميرغني قرنق. وقد يخرج من الحكومة الجديدة حزبٌ يعارض ذلك الاتفاق وكنت أعني الجبهة الإسلامية، لو خرِجَ ذلك الحزب، يكون قد أُخرجَ بسبب مذكرتكم، ومن ثم يكون قد أُخرج بالقوة من الحكومة. ثم شكرت جمعهم الكريم وغادرتُ.
انتهت مباحثاتُ القصر تلك، واستقر الرأيُ على تشكيل حكومة جديدة على أساس بنود اتفاق الميرغني قرنق. وأُعلنتِ الحكومةُ الجديدة بعد يوم أو يومين، وخرجت الجبهة الإسلامية منها. ويقال إنه جرت وساطات تجعل من تيني اتفاق الميرغني قرنق كما هو، وأن يخفف من طريقة تبنيه بحيث يٌترك هامش فيه لبقاء الجبهة داخل الحكومة. ويقال إن رئيس الوزراء ما كان سيمانع لو جَدَتِ الخُطى في ذلك السعي. ويقال أن جانب الميرغني رفض ذلك. ورفضُ جناح الميرغني له أسباب نفسيه إذ يُقال إن الحزب الاتحادي كان يشعر دائما ان حزب الأمة كان يُقرب الجبهةَ إليه في الحكومة، أكثر من تقريبه إليه شركاءه الاتحاديين. ولذلك يقال إنه يُطلق على جماعة في حزب الأمة اسم ( الفيلق الإسلامي) إشارة إلى ذلك التقارب الذي كان يزعج الاتحاديين.
أعلنت الحكومة الجديدة، وأدى السيد الصادق المهدي اليمين رئيسًا لها، لم يظهر بين الحاضرين في حفل أداء اليمين من أعضاء مجلس رأس الدولة، السيدُ إدريس البنا، مع أنه ممثلُ حزب الأمة في ذلك المجلس الرئاسي. هذا ولما كان السيد إدريس البنا من رجال وزارة الاعلام القدامى، كان ينظر إلينا نحنُ معشر الصحفيين في الإذاعة والتلفزيون، من مذيعين ومحررين، باعتبارنا من أبنائه، وكان يعاملنا على هذا الأساس. فذهبتُ إليه ثاني يومِ أداء الصادق اليمينَ، فسألته عن سبب غيابه من حفل أداء الصادق اليمين لتولي رئاسة الحكومة الجديدة، وهو ممثلُ حزبه في المجلس؟ فقال لي بالإنجليزية” off the record ــ أي ما أقوله لك ليس للنشر، فقلتُ له sure ، وقد جئتُك بلا آلة تسجيل. فقال لي:
” أنا أدعو إلى وفاق، وهذه الحكومة شُكلت في هذا القصر خِصيصًا لإقصاءِ حزبٍ شريكٍ لنا في الحكومة وأنا لا أكون شاهدًا على ذلك”.
هذا ما قاله لي نصًا السيد إدريس البنا عليه رحمة الله، فاكتملت بذلك تدابيرُ وخطواتُ إخراج الجبهة الإسلامية من الحكومة. فغادرتُه بعد أن شكرته على ذلك، وعدتُ بعد فترة قصيرة إلى لندن، وكنتُ على قناعة بأني لم أترك في الخرطوم سلطة حاكمة، بل اسم حكومة، ومزيدًا من فقدان الثقة فيها، ومزيدا من الخوف في نفوس الناس مما هو في ضمير الغيب، ومما قد يحيق بهم لو اجتاح قرنق بقواته الخرطوم فاتحاً بالموسيقى العسكرية كما وعد، مترسما خطى صديقه (يوري موسفني ) حين دخل كمالا.
( يتبع إن شاء الله)..

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى