مقالات الرأي

الإسلاميون والإدارة الأهلية بين النظرية والممارسة

5Ws-service

بقلم:المستشار القانوني/ الطيب شيقوق
(رئيس مجلس شورى قبائل رفاعة الشرق)

منذ نشأة الحركات الإسلامية في السودان خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، لم تكن نظرتها إلى الإدارة الأهلية نظرة قبول أو مهادنة، بل اتسمت في أغلبها بالتحفظ، إن لم نقل بالعداء الأيديولوجي المستتر. فقد رأت هذه الحركات، التي انبثقت عن مشارب إخوانية وسلفية، في الإدارة الأهلية بنية تقليدية موروثة من عهد الاستعمار، تُغذّي الانتماء القبلي على حساب الانتماء العقدي، وتُكرّس الزعامة الوراثية على حساب المؤسسية والشورى، وتُعيق – في تصورها – إقامة الدولة الإسلامية الحديثة التي لا تقوم على العُرف القبلي، بل على الشرع ومؤسسات الحكم الراشد.

لكن هذه الرؤية المبدئية ما لبثت أن بدأت تتراجع حين دنت هذه الحركات من حافة السلطة، ثم انقلبت إلى نقيضها حين دان لها الحكم فعلياً في الثلاثين من يونيو عام 1989. عندها أدرك الإسلاميون، عبر تجربة الحكم، أنهم أمام واقع سوداني لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه. فالسودان بلد مترامي الأطراف، متعدد القبائل، متجذر في الأعراف، والإدارة الأهلية – بما تملكه من امتداد مجتمعي وتأثير تقليدي – تمثل أداة لا غنى عنها في ضبط الأطراف، وتهدئة الصراعات، وكسب الولاءات.

فما كان منهم إلا أن غيّروا موقعهم من المعارضة إلى التوظيف، ومن التنظير الرافض إلى الاحتواء البراغماتي. فتحوّل نقد الإدارة الأهلية من كونها “أداة استعمارية” إلى الاحتفاء بها كتراث سوداني أصيل، وأُعيد تفعيل مؤسسة الإدارة الأهلية في شتى الأقاليم، واستُنهضت رموزها التقليدية من نُظار وعُمد ومشايخ، وأُدخلوا في أجهزة الحكم المحلي، وأُغدقت عليهم الامتيازات، ليغدوا في كثير من الحالات وسطاء بين السلطة والمجتمع، وإن كانوا في حقيقتهم أدوات لضمان الولاء السياسي وتمرير السياسات المركزية في الأطراف.

بهذا التحول، غادرت الإدارة الأهلية موقعها التقليدي كمؤسسة مجتمعية تُعلي من الأعراف وتُسهم في توازن العلاقات الريفية، وأصبحت ذراعًا شبه رسمية، تُخدم استقرار النظام أكثر مما تُعبر عن نبض المجتمع. ولم يكن هذا التحوّل خاليًا من التناقض، إذ وقعت الحركة الإسلامية – وهي تدعو إلى وحدة الأمة على أساس العقيدة – في مأزق الرهان على البنى القبلية والولاءات الجهوية، متغاضيةً عن التمايزات التي طالما نقدتها نظريًا، ومهادنةً للهرمية الوراثية التي كانت ترفضها مبدئيًا.

وإذا كانت بعض الحكومات التي سبقت قد استغلت الإدارة الأهلية لتسكين الريف وإدارة التوازنات المحلية، فإن الإسلاميين – رغم خطابهم المفعم بالوعود والتجديد – لم يُقدّموا رؤية إصلاحية حقيقية لهذه المؤسسة، بل أفرغوها من استقلالها التاريخي، ودفعوها إلى أتون التجاذب السياسي، مما أضعف دورها التقليدي في حل النزاعات، وأسهم في تآكل مشروعيتها المجتمعية.

والتحالف الذي انعقد بين الإسلاميين والإدارة الأهلية لم يكن نتيجة تطور فكري أو مراجعة نقدية جادة للموقف القديم، بل كان تعبيرًا عن مقتضيات الحكم وموازنات السلطة، أكثر مما كان ثمرةً لوعي سياسي ناضج أو لإدراك عملي لضرورات الانتقال من التنظير إلى التطبيق. ولما اشتد الصراع السياسي، وتراجعت هيبة الدولة، لم تجد السلطة في الإدارة الأهلية ذلك السند الثابت، إذ تحوّل كثير من رموزها إلى منصات معارضة، أو انقسمت ولاءاتهم بين تيارات متنازعة، ما عرّى ضمور البُعد القيمي في علاقة الطرفين.

خرجت الإدارة الأهلية من تجربة الحكم الإسلامي مثقلة بالاستقطاب، ومثخنة بالاستغلال، وقد فقدت كثيرًا من حيادها، ومن وظيفتها كجسر بين المجتمع والدولة. أما المشروع الإسلامي نفسه، فقد خسر جزءًا من صدقيته حين بدت ممارسته في السلطة مغايرة لخطابه النظري، لا سيما حين استخدم أدوات المجتمع التقليدي لتثبيت أركان سلطةٍ كانت تدّعي السعي لتغييره.

واليوم، إذ تمضي البلاد في متاهة الانتقال السياسي، وتتهاوى ثقة المواطنين في النخب والسلطات، تظل الإدارة الأهلية – رغم كل ما اعتراها – واحدة من المؤسسات المجتمعية القليلة التي لا تزال تحتفظ برصيد من القبول في الريف السوداني. غير أن استمرار هذا القبول رهنٌ بشرط جوهري: أن تنأى الإدارة الأهلية بنفسها عن التجاذبات السياسية، وأن تصون تماسك بنيتها التي تتكون من مواطنين تتباين مشاربهم الفكرية والانتماءات السياسية، فلا تكون أداة في يد سلطة عابرة، ولا واجهة لتيار أو حزب، بل مظلة جامعة تحفظ للناس أعرافهم، وتُسهِم في ترميم ما صدّعته السياسة من علاقات، وتعيد للمجتمع توازنه حين تتشظّى وحدته تحت وطأة التنازع السياسي؛ وإنما يلزمها، في ذات الوقت، أن تمارس نشاطها المجتمعي في الإطار المؤسسي الذي صنعه دستور الدولة، حتى تظل فاعلةً ضمن بنية الدولة لا خارجةً عنها، ومحصّنة من محاولات التسييس أو التوظيف العابر.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى