مقالات الرأي

من أجــلِ الحـقيــقــةِ فحسب تدابيرُ وذرائعُ لإخراج الجبهة من الحكم

فايف دبليوز سيرفس

بقلم / أيوب  صديق

(خبير إعلامي – مذيع B.B.C الأسبق)

(المقال الثالث)

في أعقاب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام مايو في (6 أبريل 1985م) وهي التي يًسميها الإسلاميون انتفاضة رجب، ويُسميها غيرُهم انتفاضة إبريل، شُكلت حكومةُ الفترة الانتقالية التي استمرت لعامٍ واحدٍ في الفترة ( 1985م- 1986م )، وهي التي تولى رئاسةَ الوزراء فيها نقيبُ الأطباء الدكتور الجزولي دفع الله، بعد أن تولى المشير عبد الرحمن سوار الذهب رئاسة المجلس العسكري. وفي تلك الفترة كانت يُهيمن على حديث الناس الانتخاباتُ العامة المقبلة بعد تلك الفترة، وموقفُ من يفوز فيها من قوانين الشريعة الإسلامية التي فرضها الرئيس جعفر نميري.
وفي وقت من تلك الفترة، كان السيد الصادق موجودا في لندن فأجريتُ معه مقابلة للإذاعة البريطانية، سألتُه فيها عن تلك القوانين، التي هو من أطلق عليها قوانين سبتمبر بدلا من قوانين الشريعة الإسلامية، وما موقفه منها إذا قدر الله له الفوزُ في الانتخابات. فأكد لي بأنه لن يتردد في إلغائها لأن بها عيوبا كثيرة. وقيل في تلك الفترة الانتقالية، إن الصادق كان يُلح على الجزولي ورفاقه في الحكومة، على إلغاء قوانين الشريعة، حتى يكون هو في حل من أمر إلغائها كما وعد بذلك إذا جاء إلى سدة الحكم. ويُقال إنهم كانوا يقولون له إنهم لا يستطيعون إلغاءها، فإذا جئتََ أنت للحكم فتول إلغاءها بنفسك.. وإبان الفترة الانتقالية تلك، طُلب من جون قرنق الانضمام إلى ثورة الشعب التي أسقطت نظام نميري، فأبى حيث وصف الجيش السوداني بانه ما هو إلا مايو 2 إي هو امتداد لنظام نميري، وكان يطالب بأمر مُستحيل وهو قوله( سلموا السلطة للجماهير). وواصل القتال ضد نظام الحكم كما كان يفعل.
في يونيو 1986، أجريت الانتخاباتُ العامة التي فاز فيها حزب الأمة بالأكثرية النيابية، فشكل زعيمه الصادق المهدي حكومة ائتلافية من حزبه، أي حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديمقراطي، وأربعة أحزاب جنوبية، وبقيت الجبهة الإسلامية في المعارضة. وأثناء وجود الجبهة في المعارضة، وكانت أحوالُ الجيش وضعفُه ونقصُ كل شيء هو في حاجة ماسة إليه ترد إلى الناس. فأقدم نواب الجبهة في البرلمان على التبرع بسياراتهم ذات الدفع للجيش دعمًا له في حربه ضد قوات قرنق. وقام وفدٌ من نواب الجبهة في البرلمان بقيادة زعيم المعارضة السيد على عثمان، ومعهم نائبٌ واحدٌ من حزب الأمة، بجولة على حاميات الجيش لدعمه ورفع معنوياته، حيث خاطب زعيمُ المعارضة العسكريين في تلك الحاميات، متعهدًا لهم بوقوفهم في الجبهة معهم.
هذا وفي الوقت نفسه، أقدمت نساءُ الجبهة الإسلامية بزعامة زوجة زعيم الجبهة الدكتور حسن الترابي، التي هي شقيقةُ رئيسِ الوزراء الصادق المهدي، بخطوة أخرى في سبيل دعم الجيش، حيث تبرعن بـ( صيغتهنَ) كُلِها، أي بحُليهن كلها للجيش، في عملية سُميت في وقتها( جَبل الذهب). وبسبب ذلك ثارت أقلامٌ مُعارِضةٌ للجبهة حيث وَصفت ما أقدم عليه نوابُ الجبهة ونساؤها من مساعدات للجيش، بأنه ما هو إلا دعايةٌ حزبية، وأنَ الجيش مؤسسةٌ قوميةٌ ليست في حاجة إلى مساعدات. وأصحاب تلك الأقلام يعلمون تمام العلم أن الجيشَ كان في أمس الحاجة لأي دعم كان، وما كان ذلك الموقف منهم ضد خطوة الجبهة لدعمه إلا بسببِ الخصومةِ السياسيةِ الحزبيةِ الفاجرة التي تُعمي عن الحق. وبعد أقل من عام حل الصادق الحكومة، بحجة أنها أخفقت في بعض بنود سياستها المقررِ انجازُها، ومنها قانونُ عقوباتٍ جديدٌ يحل محل قوانين الشريعة الإسلامية.
في 15 مايو 1988، شُكل تحالف حكومي برئاسة الصادق المهدي. وكان من بين أعضاء هذا التحالف حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي، والجبهة الإسلامية القومية، وبعض الأحزاب الجنوبية. ولكن كما حدث في الماضي، تفكك ذلك الائتلاف بسرعة بسبب المشاحنات السياسية بين أعضائه، ذلك أنه في نوفمبر 1988، برزت قضيةٌ سياسيةٌ كبرى، وذلك عندما وقع السيد محمد عثمان الميرغني والحركةُ الشعبية لتحرير السودان، في 16 نوفمبر 1988 اتفاقاً في أديس أبابا، تضمن بنوداً منها:
-1 تجميد مواد الحدود وكافة المواد ذات الصلة المضمنة في قوانين سبتمبر 1983م وإن لا تُصدر أية قوانين تحتوي على مثل تلك المواد وذلك إلى حين قيام المؤتمر القومي الدستوري للفصل في مسالة القوانين.
2ــ إلغاء كل الاتفاقيات العسكرية المبرمة بين السودان والدول الأخرى التي تؤثر على السيادة الوطنية.
3ـــ رفع حالة الطوارئ.        4ــ وقف إطلاق النار. بالإضافة إلى فقرات  أُخر في الاتفاق.
عارضتِ الجبهةُ الإسلامية هذا الاتفاق، الذي عندما رفضتِ الحكومة دعمه، وهو الذي أصبح يُسمى (اتفاق الميرغني قرنق)، قدم القائدُ العام للقوات المسلحة الفريق فتحي أحمد علي، إنذاراً للصادق المهدي، وقعه عدد من كبار الضباط وهو الذي سُمي مذكرة الجيش الشهيرة. ومما طلب الجيشُ فيها من رئيسَ الوزراءِ، جعل الحكومة الائتلافية أكثر تمثيلاً، وأن يُعلن شروط َإنهاء الحرب الأهلية. إضافة إلى ما يعانيه الجيشُ من نقص مريع في كل شيء. وبقول الجيش من ضمن محتويات مــذكــرته:
1ــ ” إن دراسة المعطيات الواضحة تكشف أن قدرتنا القتالية قد تناقصت بنسبة 50% مما كانت عليه في العام 1983م وذلك للاستنزاف المستمر في المعدات المختلفة والأسلحة لمؤن القتال مع غياب كامل للاستعواض المنتظم، واخيرا توقفت كلُ الدول المانحة عن تقديم أقل احتياجاتنا الحيوية”.
2ــ ” أما المؤشرات لذلك فهي واضحة، أننا قد فقدنا مساحات أرضية ليس بسبب فقد مقاتلي جيشنا الباسل ولكن بسبب تدني إمكانياتنا القتالية وقصور حركة إمدادنا المتنظم. من الجانب الآخر نجد أن العدو يحظى بدعم الشرق والغرب وتتوفر له إمكانيات ومتطلبات القوات النظامية”
3ــ ” أما المؤشرات لذلك فهي واضحة، أننا قد فقدنا مساحات أرضية ليس بسبب فقد مقاتلي جيشنا الباسل ولكن بسبب تدني إمكانياتنا القتالية وقصور حركة إمدادنا المتنظم، من الجانب الآخر نجد أن العدو يحظى بدعم الشرق والغرب وتتوفر له إمكانيات ومتطلبات القوات النظامية”. ذلك قدرٌ مما تضمنته مذكرة الجيش في الجانب العسكري، وهو الجانب الأكثر حساسية في تلك الفترة من فترات الحكم في السودان.
وفي 11 مارس 1989، رد الصادق المهدي على مذكرة الجيش بحل الحكومة. وكان الائتلافُ الجديدُ الذي أخذ رئيسُ الوزراء على عاتقه تشكيله، سيضمُ حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي، وممثلي الأحزاب الجنوبية والنقابات العمالية، إذ رفضتِ الجبهةُ الإسلامية الانضمام إلى التحالف الجديد المقترح، لرفضها الاتفاق، الذي كانت تُجري مشاوراتٌ بشأنه مقرُها القصرُ الرئاسي، ولذا اكتسبت تلك الحكومة قبل ظهورها لقب (حكومة القصر) باعتبار ما سيُسفر من تكوينها من تلك المشاورات التي مقرها القصر.
في ذلك الجو السياسي المضطرب في السودان، اقترحتُ أنا على إدارة الإذاعة في لندن أن أُسافر إلى السودان في مهمة صحفية، أوافي فيها الإذاعة بتغطية لتك الأحداث المتلاحقة. وفعلاً سافرتُ ووصلتُ الخرطوم، حيث وجدتُ فيها جوًا في غاية الاضطراب السياسي، وخوفًا جاثيًا على صدور سكان العاصمة بمدنها الثلاث، من تهديداتِ الحركة الشعبية التي باتت تُنذرُ باجتياح العاصمة، وتُسمِعُهم تهديداتِها من إذاعة الحركة يوميا من إثيوبيا.
(يتبع إن شاء الله)

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى