
أعدت الصحافية السودانية منى عبد الفتاح تقريرا شاملا بصحيفة “اندبيندت عربية” حول تدفق السلاح بإقليم دارفور والحظر الأممي ، وتناول التقرير الخلفية التاريخية لانتشار السلاح في المنطقة وخطورته ووصوله إلى أيدي الأفراد والجامعات وعجز مجلس الأمن الدولي عن ضبط تدفق الأسلحة إلى هناك.. وفيما يلي نص التقرير الذي جاء تحت عنوان : تدفق السلاح بدارفور والحظر الاممي:
مع الحرب الدائرة منذ أبريل (نيسان) 2023، يكتسب هذا الإرث أبعاداً أكثر خطورة، فالسودان يعيش نتيجة عقود من “عسكرة الهوية والسياسة”، إذ يتوارث المجتمع ديناميكيات التسلح من جيل إلى جيل، وتغذيها السلطة المركزية حيناً، والفوضى الأمنية حيناً آخر، بذلك، لم يعد السلاح مجرد انعكاس للنزاع، بل أصبح مادته الأساسية ولغته التي يعاد من خلالها تشكيل المجال السياسي والاجتماعي على حد سواء.
على رغم مرور ما يقرب من عقدين على صدور القرار 1591 عام 2005، الذي فرض حظراً شاملاً على بيع وتوريد الأسلحة إلى الأطراف المتحاربة في دارفور، لا تزال التقارير الأممية والدولية تشير إلى استمرار تدفق السلاح عبر مسارات معقدة تتجاوز إرادة مجلس الأمن وآلياته الرقابية. ففي جلسته الأخيرة في الـ 12 من سبتمبر (أيلول) الجاري، قرر المجلس تمديد نظام العقوبات لعام إضافي، مجدداً ولاية فريق الخبراء حتى أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، في خطوة تهدف إلى توحيد الجداول الزمنية بين النظام والولاية، والتقليل من الجدل المتكرر بشأنهما داخل المجلس، كما حدث في فبراير (شباط) الماضي.
يحمل هذا التمديد في طياته دلالات سياسية وأمنية متشابكة، فمن جهة، يعكس حرص المجلس على استمرار آلية المراقبة الدولية بوصفها أداة لتوثيق الانتهاكات وتقديم تقييمات مرحلية وتحديثات دورية، وصولاً إلى التقرير النهائي في يوليو (تموز) 2026، ومن جهة أخرى، يؤكد أن المجتمع الدولي لا يزال يرى في العقوبات وسيلة ضرورية، وإن محدودة، لكبح تفاقم النزاع، لكن ما يتضح بجلاء أن هذه الأدوات لم تنجح في وقف تدفق السلاح، الذي يجد طريقه إلى دارفور عبر شبكات تهريب مترابطة، وضعف قدرات الدول المجاورة على ضبط حدودها المترامية، وقد فاقمت الحرب الحالية هذه الديناميكيات، إذ تحولت إلى بيئة خصبة لتوسيع مسارات التهريب وتعاظم الطلب على السلاح، ما جعل الحظر أكثر هشاشة وأقل فاعلية.
يثير التناقض الصارخ بين النصوص القانونية والواقع الميداني تساؤلات جوهرية حول فاعلية العقوبات الدولية كوسيلة للردع وضبط الصراع الداخلي، ومع أنه يُنظر إلى تمديد العقوبات كخطوة ضرورية من الناحية الرمزية والإجرائية، لكنها تظل غير كافية لإيقاف النزيف المسلح في دارفور، فالقرار يعكس حضوراً دولياً مستمراً في الملف، لكنه يفتقر إلى العناصر التأسيسية لمعالجة جذور النزاع، سواء ما تعلق بالهشاشة الاقتصادية، أو بتوازنات القوى القبلية والسياسية، أو بتأثيرات التدخلات الإقليمية، وما لم تقترن العقوبات بإرادة سياسية أوسع، داخلية وخارجية، قادرة على الاستثمار في تسوية شاملة ومستدامة، فإن تدفق السلاح سيظل يتجاوز الحظر، ويعيد إنتاج المأساة التي عاشها الإقليم منذ بداياتها.
تعمقت ظاهرة انتشار السلاح منذ منتصف الثمانينيات، حين تبنت حكومة الصادق المهدي سياسة تسليح الميليشيات القبلية في دارفور وكردفان، كان ذلك المنعطف بمثابة انتقال من تسليح ظرفي محدود إلى إرساء بنية ميليشياوية ذات امتداد اجتماعي وإثني، جعلت السلاح يتغلغل في النسيج المحلي كأداة دفاع ومنافسة سياسية في آن واحد، هذا التوسع مثل ما وصفه بعض الباحثين بـ “التركيبة القاتلة”، دولة غير مستقرة، محاطة بشبكات تهريب مفتوحة، وفضاء عام تُهيمن عليه أسلحة صغيرة لا تخضع لأي رقابة.
تبنت هذه الصيغة حكومة الرئيس السابق عمر البشير بعد الانقلاب على حكومة المهدي، وإن بشكل مختلف، فغدت سياسة التسليح الموجه للجماعات “الموالية” أداة لإدامة الحكم المركزي وضبط الأطراف، إلا أن هذا الخيار لم يكن محايداً، إذ أفضى إلى إعادة إنتاج التوترات الإثنية في دارفور، حيث اعتُبر تسليح بعض المجموعات تعبيراً عن تفضيل حكومي واضح.
ومع الحرب الدائرة الآن منذ أبريل (نيسان) 2023، يكتسب هذا الإرث أبعاداً أكثر خطورة، فالسودان يعيش نتيجة عقود من “عسكرة الهوية والسياسة”، حيث يتوارث المجتمع ديناميكيات التسلح من جيل إلى جيل، وتغذيها السلطة المركزية حيناً، والفوضى الأمنية حيناً آخر، بذلك، لم يعد السلاح مجرد انعكاس للنزاع، بل أصبح مادته الأساسية ولغته التي يُعاد من خلالها تشكيل المجال السياسي والاجتماعي على حد سواء.
اصطدم حظر الأمم المتحدة، الذي أُعلن بنية تجفيف منابع الصراع، بواقع أكثر تعقيداً، يتمثل في هشاشة الدولة، وغياب الرقابة على الحدود، وتواطؤ بعض الفاعلين المحليين والدوليين، هذا المزيج أفرغ الحظر من مضمونه، وجعل من السوق السوداء للسلاح، ومن شبكات التهريب العابرة للحدود، قناة أكثر فاعلية من أي نظام رسمي للضبط والسيطرة، فالأسلحة لا تتدفق فقط لأنها مطلوبة، بل لأنها باتت جزءاً من اقتصاد سياسي متكامل، حيث يستثمر أمراء الحرب في استمرار النزاع كوسيلة لتعزيز نفوذهم ومصالحهم المادية.
الأخطر من ذلك أن وفرة السلاح رسخت منطق “المجتمع المسلح”، حيث أصبح امتلاك القوة النارية شرطاً للبقاء، ومصدراً للشرعية في ظل غياب مؤسسات عادلة وفاعلة، هذا التحول قوض إمكانيات التعايش السلمي بين المجموعات، وحول الخلافات حول الموارد إلى مواجهات دامية تتغذى على التدفق المستمر للأسلحة، وهنا تكمن المفارقة، فالحظر الذي يفترض أن يحد من النزاع، يضاعف في الواقع دوافع التهريب ويدخل السلاح في مسارات أشد سرية وأكثر خطورة.
كذلك فإن التدفق المتزايد للسلاح لم يقتصر على تأجيج العنف المباشر، بل أسهم في إعادة هندسة الخريطة الاجتماعية والسياسية في دارفور، فالمجتمعات التي حاولت التزام الحياد وجدت نفسها مضطرة إلى التسلح للدفاع عن وجودها، فيما استُخدم السلاح كأداة للهيمنة السياسية والإثنية، وبذلك تحول الحظر إلى معضلة مزدوجة، فهو لا يوقف تدفق الأسلحة، ولا يسمح بخلق بيئة آمنة لنزعها أو ضبطها، ويثبت استمرار التسلح في دارفور أن معالجة الأزمة لا تكمن في القرارات الأممية وحدها، بل في تفكيك البنية التي تجعل من السلاح أساساً للسلطة ووسيلة للبقاء، من دون ذلك، سيظل الحظر إعلاناً شكلياً، في مواجهة واقع يفيض بالأسلحة، ويفرض منطقه على السياسة والمجتمع معاً.
مسار التدفق
أسهمت الحروب التشادية- الليبية الممتدة بين 1978 و1987، والتدخل الليبي في دعم القبائل المعارضة للحكومة التشادية، في إنشاء شبكة واسعة من الأسلحة التي أعادت إنتاج نفسها لاحقاً في الصراعات اللاحقة في دارفور منذ 2003، وفي الفترة بين 1990 و2010، شهدت تشاد ودارفور دخول كميات كبيرة من السلاح الليبي، بدعم من الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي لقبائل الزغاوة في دارفور 2005.
وبعد سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا عام 2011، انتشرت نحو 29 مليون قطعة سلاح مخزنة في ليبيا، وفق تقارير أممية ودولية، لتغذي سوقاً غير قانونية واسعة، مؤدية إلى تحول ليبيا إلى مركز إقليمي لتجارة السلاح، وقد أظهرت حرب أبريل 2019 في طرابلس، هشاشة الرقابة على الأسلحة، وعلى رغم إطلاق الاتحاد الأوروبي لعملية “إيريني” 2020 وفق فرض الأمم المتحدة حظراً على توريد الأسلحة إلى ليبيا، فإن ميليشيات ليبية متعددة، تجاوز عددها 300، تغذي هذه السوق غير الشرعية، مستفيدة من دعم القوات التركية في الغرب والفيلق الأفريقي الروسي في الشرق.