تقارير وتحليلات

الصحافية السودانية منى عبد الفتاح تكتب: الدعم السريع والسياق الدموي لتقويض السودان

رصد : فايف دبليوز سيرفس

تقرير/ منى عبد الفتاح ( اندبيندنت عربية)

تحت عنوان: (من “الجنجويد” إلى “الدعم السريع”… السياق الدموي لتقويض السودان) كتبت الصحافية السودانية منى عبد الفتاح  التقرير أدناه فإلى نصه كاملا:

أدت “الدعم السريع” دوراً تكميلياً للجيش في مواجهة التمرد داخل دارفور، لكن البنية المرنة التي صيغت حولها سمحت لها بالتوسع أفقياً عبر التجنيد القبلي الواسع وبناء شبكات ولاء تتجاوز الانتماء الوطني، وعمودياً عبر اختراق هياكل الحكم والإدارة، وصولاً إلى تشكيل مؤسسات موازية للجيش والأمن.

منذ اندلاع شرارة الصراع في دارفور عام 2003، تشكل في الجغرافيا السودانية كيان “الجنجويد” الذي بدأ كذراع أمنية للدولة في مواجهة التمرد، وانتهى كقوة منافسة لها باسم قوات “الدعم السريع”. رحلة امتدت لأكثر من عقدين من الزمن، سالت خلالها دماء السودانيين على رمال دارفور والخرطوم والجزيرة، لتغدو الحكاية رمزاً مأسوياً لانبعاث القوى الوكيلة من ظلال النفوذ، واندفاعها لتعيد رسم ملامح الدولة على صورتها.

في بداياتها، اتخذت الدولة السودانية قراراً محفوفاً بالأخطار حين استعانت بميليشيات “الجنجويد” كقوة غير نظامية لمواجهة الحركات المتمردة ذات الخلفية الأفريقية في دارفور. كان ذلك القرار، من حيث النتائج التاريخية، بذرة لانقسام بنيوي في جهاز الدولة نفسه، إذ أوكلت السلطة حق العنف إلى وكلاء خارج مؤسساتها الرسمية. ومع مرور الزمن، تضخمت هذه الميليشيات وارتبط وجودها بموازين القوى الداخلية في النظام، إلى أن تحولت أثناء أعوام نظام الرئيس السابق عمر البشير الأخيرة إلى ركيزة أمنية لحمايته من خصومه، بدلاً من أن تكون أداة لحماية الدولة ذاتها.

ومع قيام قوات “الدعم السريع” كإطار رسمي عام 2013، تكرس مسار جديد قوامه الطموح السياسي والاقتصادي والهيمنة على مفاصل الدولة من خارجها. ولم تعد هذه القوات مجرد تشكيل عسكري، بل أصبحت فاعلاً مستقلاً يتغذى من هشاشة المؤسسات الوطنية، ويفرض معادلاته بالقوة والسلاح. وهكذا تحول السلاح الذي وجه يوماً ضد التمرد إلى سلاح ضد الدولة نفسها.

اليوم، وفي ظل الحرب السودانية المشتعلة منذ عامين ونصف العام، تتجسد هذه المسيرة الدموية في أفظع صورها، من الفاشر، المدينة التي كانت يوماً رمزاً للسلطنة والإرث الدارفوري، إلى مجازرها الأخيرة التي جعلت اسمها مرادفاً للمأساة والخراب. وما بين “الجنجويد” و”الدعم السريع” تقف ذاكرة السودان مثقلة بإرث من النار والدم، إذ لم يعد السؤال عمن يملك القوة، بل عن الدولة نفسها التي تمارس فيها هذه القوة.

البذرة المرة

انبثقت ميليشيات “الجنجويد” من رحم مرحلة مضطربة في التاريخ السوداني، حين تداخلت الصراعات القبلية مع ضعف الدولة المركزية وتراجع قدرتها على احتكار أدوات العنف. خلال ثمانينيات القرن الماضي، ومع سقوط نظام جعفر النميري عام 1985، اتجهت السلطة الانتقالية الجديدة نحو خيار محفوف بالأخطار، فقد أوفد “حزب الأمة” بزعامة الصادق المهدي والذي كان يمثل غالبية في برلمان الفترة الانتقالية، اللواء فضل الله برمة ناصر لتوزيع السلاح على القبائل العربية التي كانت تسمى “المراحيل” في مناطق دارفور وكردفان، لمواجهة خطر التمدد المسلح لقوات “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة جون قرنق دي مابيور. وكان الهدف المعلن حماية القرى والمواشي، غير أن الهدف الحقيقي تمثل في تحويل تلك القبائل إلى أذرع قتالية موازية للجيش النظامي في مواجهة التمرد الجنوبي. ومنذ تلك اللحظة، بدأ العنف يأخذ طابعاً اجتماعياً عميقاً، وانقسمت دارفور بين عرب و”زرقة”، وتحول الصراع السياسي إلى معركة وجودية على الهوية والانتماء.

من الناحية الاجتماعية والسياسية، اكتسب مصطلح “الجنجويد” دلالات مرعبة. فالكلمة التي كانت تطلق على الفرسان المسلحين ببنادق الكلاشنكوف والممتطين الخيول أو الجمال، أصبحت رمزاً لعنف لا يعرف حدوداً، ولعلاقة شائهة بين الدولة والقبيلة، إذ تتحول الحماية إلى ابتزاز، والولاء إلى سلطة فوق القانون. وبحلول عام 2003، ومع اندلاع تمرد الحركات الدارفورية من قبائل الفور والزغاوة والمساليت، بلغ الصراع ذروته. وردت الحكومة بتسليح قبيلة الرزيقات، و”الأبالة” وغيرهم من العرب الرحل، فاشتعلت حرب إثنية مفتوحة تتداخل فيها المطالب السياسية مع الصراع على الموارد والأرض والماء في إقليم أنهكه الجفاف والتهميش.

لم تكن شرارة عام 2003 مجرد حرب داخلية، بل عُدت مشروعاً منظماً لإعادة هندسة البنية السكانية في الإقليم، بعد حرق أكثر من 3 آلاف قرية، ومقتل ما يزيد على 300 ألف مدني، وتشريد نحو 2.1 مليون شخص داخل السودان وخارجه، وفق تقديرات الأمم المتحدة.

تحولت دارفور سريعاً إلى رمز عالمي للإبادة الجماعية وعنوان لفشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين، ووثقت منظمات دولية جرائم ممنهجة واغتصابات جماعية وقصفاً بالطائرات وعمليات إعدام ميدانية، وتهجيراً قسرياً لمجموعات بأكملها. ولم يكن العنف عشوائياً، بل خُطط له داخل غرف القيادة العسكرية ونُفذ بتنسيق بين الجيش و”الجنجويد”، الذين تحولوا إلى أداة من أدوات العقاب الجماعي ضد الجماعات غير العربية.

خلال العقد اللاحق، واصلت قوات “الدعم السريع” الوريث المباشر لـ”الجنجويد” إرث الدم ذاته في إطار “عملية الصيف الحاسم” (2014 – 2015)، التي شهدت تدمير قرى بأكملها شمال وجنوب دارفور وجبال مرة. وقدر عدد مقاتليها بين 5 و6 آلاف مدججين بنحو 700 مركبة قتالية، ونفذوا هجمات وصفتها منظمات حقوقية بأنها “حملات تطهير عرقي تحت غطاء مكافحة التمرد”. واغتُصبت النساء علناً، وحُرقت القرى عن آخرها، وهاجر الناجون نحو المجهول.

رسخ الإفلات من العقاب هذه المأساة، إذ وفرت السلطة غطاء قانونياً لمرتكبي الجرائم، بل كافأتهم بالمناصب والثروات. وأوضح تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” تحت عنوان “تعزيز حال الإفلات من العقاب.. مسؤولية الحكومة السودانية عن الجرائم الدولية في دارفور”، أن الحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية والعسكرية لعبت دوراً مباشراً في تنظيم وتنسيق الهجمات الواسعة على المدنيين منذ اندلاع التمرد عام 2003، مستفيدة من السياسات التي كرست ثقافة الإفلات من العقاب وأدت إلى تدهور الوضع الإنساني والأمني في الإقليم والمناطق الحدودية مع تشاد. ومع مرور الزمن تحول الإفلات من العقاب إلى سياسة رسمية، لا مجرد نتيجة عرضية، فأعيد إنتاج المأساة في الجنينة والفاشر، حيث ما زالت الممارسات ذاتها تتكرر.

بعد نحو عقدين من المذبحة الأولى، صدر أخيراً أول حكم دولي يدين أحد قادة “الجنجويد” هو علي كوشيب في لاهاي بـ27 تهمة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وعلى رغم رمزية الحكم فإن آلاف الضحايا ما زالوا ينتظرون العدالة في إقليم تحول إلى مقبرة مفتوحة للضمير الإنساني، وذكرى حية لفشل العالم في مواجهة أبشع فصول القرن الأفريقي الحديث.

استراتيجية النفوذ

 خلال عام 2013، دخل السودان طوراً جديداً من إعادة التشكيل العسكري والسياسي، حين تحولت “الجنجويد” إلى كيان رسمي تحت مسمى قوات “الدعم السريع”. ولم يكن هذا التحول سوى إعادة تدوير للقوة القديمة ضمن هيكل الدولة، من دون المساس بجوهرها القبلي والميداني. انطلقت هذه القوات من معقلها في بادية مستريحة شمال دارفور بقيادة موسى هلال، الذي فرض هيمنته على مناطق سرف عمرة وكتم والواحة، قبل أن تستشعر الخرطوم خطر تمدده، فجاء الرد من داخل البيت ذاته، وانشق ابن عمه محمد حمدان دقلو (حميدتي) لينال دعم السلطة ويعاد تنظيم القوة تحت إشراف جهاز الأمن والاستخبارات، مانحاً إياها غطاء قانونياً وشكلاً مؤسسياً خدم غايات النظام.

بحلول عام 2017 غدت قوات “الدعم السريع” قوة موازية للجيش، لا تخضع له بل تراقبه من الداخل. استخدمها البشير درعاً شخصياً يصد الانقلابات ويقمع الداخل، حتى غدت ركيزة سلطته الأكثر فاعلية، وأضحى قائدها أقرب مقاتليه إلى القصر. لكن المفارقة أن القوة التي ولدت لحمايته كانت هي ذاتها التي أطاحته عام 2019. ومع سقوط البشير، صعد حميدتي إلى قلب السلطة نائباً لرئيس المجلس العسكري، ثم للمجلس السيادي، متحولاً من زعيم ميليشيات قبلية إلى فاعل سياسي يفاوض الدول والسفراء ويعيد تعريف مفهوم السلطة في السودان على طريقته.

طوال العقد التالي، نسج حميدتي استراتيجية نفوذ مركبة تقوم على التمويل الذاتي، إذ تحولت مناجم الذهب في دارفور بمساعدة قوات “فاغنر” إلى مصدر رئيس لثروته وتسليحه، مما منحه استقلالاً مادياً ومؤسسياً مكنه من التحول إلى ما يشبه “دولة داخل الدولة”.

أسست المصالح الاقتصادية المشتركة بين الجيش و”الدعم السريع”، المبنية على شبكات مالية موازية لتحالف هش أفضى إلى انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021 مطيحاً بالمرحلة الانتقالية. ومع تصاعد نفوذها وسعت قوات حميدتي ترسانتها وعددها، ومع رفضها الدمج في الجيش تفجر النزاع خلال الـ15 من أبريل (نيسان) 2023، حين خاضت حرباً شاملة ضده، لتتحول الخرطوم ودارفور إلى مسرح لانهيار الدولة المركزية.

وجه العاصفة

طوال فترة الحرب بقيت الفاشر، آخر عواصم دارفور الخمس، صامدة في وجه العاصفة، فمنذ اندلاع القتال تحولت المدينة إلى هدف استراتيجي رمزي يحمل بين طياته شرعية القاعدة القبلية من جهة، وبقاء الدولة المتمثلة بالجيش من جهة أخرى. وما إن غابت الوسائل السياسية للحسم حتى برزت أدوات الحرب المفتوحة على المدنيين كوسيلة لتعطيل خصم سياسي وإعادة تشكيل النفوذ. هذا السياق السياسي هو الذي هيأ الأرضية لتصاعد الانتهاكات وتصميم هجمات ترمي إلى تكسير قدرة المجتمع المدني على المقاومة.

اتسم الجانب العسكري بتداخل عوامل عديدة، كإدخال منظومات جوية غير مألوفة مثل الطائرات المسيرة، ووجود مقاتلين مرتزقة، مما سمح لقوات “الدعم السريع” باختراق محاور حول الفاشر وخلق ضغط دائم على دفاعات المدينة، فيما اعتمد الجيش على تشكيلات محلية محدودة، وعمد لاحقاً إلى استغلال التفوق الجوي لقطع خطوط الإمداد والتخفيف من الحصار.

ما يميز مجازر الفاشر الأخيرة هو نمط الاستهداف الممنهج للمدنيين على أساس الهوية، وعمليات التصفية الميدانية والاغتيالات الانتقائية، والهجمات على مخيمات النازحين وحملات الاغتصاب كأداة لإرهاب المجتمعات. هذه المعطيات تكررت في استنتاجات بعثات حقوق الإنسان والأمم المتحدة، التي ربطت بين سلوك القوات المهاجمة وسياسات قديمة من الإفلات من العقاب، مما أعطى مرتكبي الجرائم شعوراً بالحصانة واستمرارية العمل بالعنف كوسيلة سياسية.

النتيجة الإنسانية كارثية، حصار متعمد يحرم ملايين المدنيين من الإغاثة، ومؤشرات مجاعة محلية، ومعدلات ارتفاع أعراض سوء التغذية بين الأطفال، إلى جانب آلاف القتلى والجرحى وتهجير جماعي متكرر. هذه الصورة تظهر أن المسألة ليست مجرد فشل عسكري موجز، بل فشل متراكب للدولة والمجتمع الدولي في حماية السكان ومنع تحول الصراع إلى مشروع للترحيل العرقي وإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية.

 سياسياً، تعكس محاولات حميدتي والقوى المتحالفة معه شرعية بديلة، عبر الإعلان عن مؤسسات سياسية أو تحالفات مسلحة، سعياً لتحويل الانتصار العسكري إلى امتياز دائم على إدارة الموارد والمساعدات والسلطة المحلية. وهذا المسعى، في ظل غياب مساءلة فعالة، يعني أن الفاشر قد تصبح نموذجاً لكيفية استثمار الفصائل المسلحة في التنصيب كقوة حكم محلية، ومن ثم تحويل العنف إلى آلية مستمرة لإعادة إنتاج نفوذ لا حدود له.

بديل قاتم

يجسد صعود قوات “الدعم السريع” في السودان مساراً فريداً لتحول الميليشيات من ذراع أمنية هامشية إلى كيان شبه دولتي ينازع الدولة المركزية سلطتها وشرعيتها. فهذه القوة، التي ولدت من رحم الصراع في دارفور مطلع الألفية، تطورت عبر عقدين إلى منظومة عسكرية – اقتصادية ذات هرم قيادي، تتجاوز في قدراتها بعض مؤسسات الدولة الرسمية. في بداياتها، أدت “الدعم السريع” دوراً تكميلياً للجيش في مواجهة التمرد داخل دارفور، لكن البنية المرنة التي صيغت حولها سمحت لها بالتوسع أفقياً عبر التجنيد القبلي الواسع وبناء شبكات ولاء تتجاوز الانتماء الوطني، وعمودياً عبر اختراق هياكل الحكم والإدارة، وصولاً إلى تشكيل مؤسسات موازية للجيش والأمن.

اتبعت “الدعم السريع” استراتيجية تراكم متدرج للقوة تستند إلى ثلاثة أعمدة، السيطرة الميدانية والاستقلال المالي والتموضع السياسي. فمن خلال السيطرة على طرق التجارة ومناجم الذهب في دارفور، ضمنت استقلالاً تمويلياً مكنها من التحرر من قبضة الخزانة العامة. ومن خلال توظيف هذا الثراء في كسب الولاءات السياسية والقبلية تحولت إلى شبكة نفوذ تمتد من أقصى الغرب حتى العاصمة. واكتسبت خبرة قتالية عززت ثقتها بنفسها كقوة ناهضة.

 أخطر ما في هذا التحول أنه يجري وسط تفكك البنية المركزية للدولة السودانية، وتآكل مؤسساتها الأمنية والمدنية على السواء. ومع استمرار الحرب وتراجع سلطة الجيش، تبدو دارفور على وشك التحول إلى نواة كيان سياسي موازٍ، تحكمه قوة تملك الأرض والسلاح والشرعية القبلية. وهكذا، تغدو قوات “الدعم السريع” ليس مجرد فاعل عسكري، بل مشروعاً لمؤسسة بديلة تتغذى على أنقاض الدولة الأم، في مشهد يختزل مأساة السودان الحديثة وانهيار فكرة المركز ذاتها. فاليوم، تبدو “الدعم السريع” كبديل قاتم عن مؤسسات الشرعية الغائبة، تجسيداً لدينامية السلطة التي التهمت الدولة، وأنتجت كياناً عسكرياً – سياسياً يعيد صياغة السودان وفق منطق القوة لا القانون.

 

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى