مقالات الرأي

الدولة السودانية : ضرورة إعادة التأسيس من الأطراف

حوارات حول الأفكار...(146)

بقلم/ حيدرمعتصم.

الدولة السودانية بين المركزيات القاتلة والانبعاث القاعدي: ضرورة إعادة التأسيس من الأطراف
تمهيد:
من بين أعقد الأزمات التي عطلت السودان عن التحول إلى دولة راشدة، تبرز إشكالية المركزية المفرطة في الحكم والسياسة والثقافة والتنمية. فقد ظلت الخرطوم لعقود طويلة مركزًا يمتص كل الموارد ويحتكر السلطة ويحتضن النخب، فيما تم تهميش الولايات وإقصاء الأطراف. هذا التشوه البنيوي لا يمكن علاجه بالترقيع، بل يستلزم إعادة تأسيس شاملة تنطلق من القواعد المجتمعية نفسها.
أولاً: المركزية بوصفها آلية هيمنة لا وحدة :
المركزية في التجربة السودانية لم تكن أداة لخلق توازن وطني أو ضمان وحدة البلاد، بل تحولت إلى آلية للهيمنة الطبقية والثقافية والعرقية، حيث تُدار البلاد بعقلية استعلائية من المركز على الأطراف، مما عمّق الشعور بالظلم وأذكى النزعات الانفصالية والنزاعات المسلحة، بل وساهم في إنتاج دولة فوقية منقطعة عن جذورها الاجتماعية.
ثانياً: الأطراف كمصدر للحلول وليس للمشكلات.
لطالما قُدّمت الأقاليم السودانية بوصفها حاضنًا للمشكلات: الفقر، التمرد، الجهل، الانفلات… ولكن الحقيقة أن الأطراف السودانية تمثل خزّانًا للموارد الطبيعية والبشرية والثقافية، وتملك من الحكمة المجتمعية والأنساق القيمية ما يؤهلها لأن تكون منطلقًا لمشروع بناء الدولة. المهم هو تفكيك نظرة المركز النخبوية، والنظر إلى الأطراف كشركاء لا كتوابع.
ثالثاً: إعادة التأسيس من القاعدة نحو القمة :
لا يمكن تجاوز المركزيات القاتلة إلا بالتحول إلى نموذج تنموي وسياسي قاعدي يبدأ من المجتمع المحلي، وينمو باتجاه المركز. الدولة تُبنى من القاعدة، عبر تشكيل كيانات مدنية وسياسية تمثل المجتمع حقيقة لا نخبته المزيفة، وتفرز قيادات شرعية تعبّر عن تطلعات الناس. مثل هذا النموذج يحقق أمرين: العدالة التوزيعية والتمثيل الحقيقي.
رابعاً: مفهوم الدولة بوصفها مظلة للهوية الجامعة لا مفروضة من المركز.
من أهم شروط إعادة التأسيس أن يعاد تعريف الدولة نفسها لا كأداة فوقية مفروضة من المركز، بل كمشروع تشاركي جامع تنبع شرعيته من قبوله المجتمعي. ويستلزم هذا الاعتراف بالتنوع السوداني بوصفه مصدر ثراء، لا تهديدًا للوحدة. فالمركزية القومية لا يمكن أن تُبنى على إقصاء الثقافات والهويات الأخرى، بل على عقد اجتماعي عادل.
خامساً: العدالة الجغرافية كأحد أعمدة الإستقرار.
إعادة بناء الدولة لا تكتمل من دون توزيع عادل للثروة والسلطة والخدمات. لا معنى لدولة تحكم من الخرطوم بينما تموت الأطراف جوعًا ومرضًا ونسيانًا. لا يمكن أن نتحدث عن نهضة شاملة من دون إرساء مفهوم العدالة الجغرافية التي تضع حداً للاختلال التاريخي بين المركز والأطراف، وتعيد التوازن الوطني.
خاتمة: نحو مشروع وطني قاعدي يعيد بناء الدولة.
المطلوب ليس مجرد لامركزية إدارية شكلية، بل تحول جذري في فلسفة الحكم ومنهجية بناء الدولة. الانطلاق من القواعد الشعبية نحو الدولة، ومن الأطراف نحو المركز، ومن التمثيل الحقيقي نحو السلطة، هو السبيل الوحيد لإعادة التأسيس. السودان لن ينهض بمركز قوي ونظام هَرَمي متهالك، بل بمجتمع يقود دولته من القاعدة، دولة تعكس تنوعه وتخدم ناسه لا نخبه.

احمد يوسف التاي

منصة إخبارية سودانية تقدم الأخبار والتحليلات المتعمقة حول أبرز الأحداث المحلية والعالمية. تأسست بهدف توفير محتوى إخباري موثوق وموضوعي يلبي احتياجات القراء السودانيين في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى