
بقلم / حيدر معتصم مدني.
( مركز الخرطوم للحوار)
في لحظات الانهيار و الإنكسار الوجودي الكبري، تتكاثر الشعارات كالأوراق في العاصفة و اللحظة التي بدأ يعلو فيها شعار “لا للحرب” كنداءٍ إنساني نبيل، كانت هي فعلا لحظة إنهيار و إنكسار لقوة غاشمة بدأت تترنح، و بدا الشعار نفسه – في عمق التحليل – هو إنعكاس لحالة زيف عميق يعبر بصدق عن أزمة وعي جمعي أكثر منه كإنعكاس لرؤية استراتيجية كما هو مروج له.
و لذلك فالسلام الذي لا يستند إلى قوة يتحول إلى عبودية ناعمة، والحرب التي تُخاض بلا بوصلة هوية تتحول إلى فوضى.
من هنا، تنشأ الحاجة الماسة إلى سردية جديدة تجمع بين القوة والحكمة، بين الصمود والسلام المبنى على رؤية…
1. الحرب كضرورة وجودية :
الحرب في جوهرها ليست نقيضًا للسلام، بل شرطًا موضوعيًا له.
إنها لحظة الدفاع عن الحق حين يسقط من على الطاولة.
فمن لا يملك الاستعدادللمواجهة، لا يملك الحق في الوجود.
ولذلك، لا تُفهم الحرب هنا كفعل عدواني، بل كإعلانٍ أخلاقيٍ عن حدود الكرامة الوطنية.
إنها فعل السيادة حين تُهدد، وصوت الهوية حين يُراد لها أن تصمت.
2. السلام كغاية استراتيجية :
السلام، في هذه السردية، ليس شعارًا عاطفيًا، بل نتيجة هندسة دقيقةٍ لتوازن القوى الذي لا يتحقق بالنيات الحسنة، بل بإدراك قانون العالم: “القوة تصنع الاحترام، والاحترام يصنع السلام.”
فالتفاوض من موقع الضعف ليس سلامًا، بل تثبيت للهزيمة.
أما التفاوض من موقع الردع، فهو الفعل الحقيقي للسلام الدائم.
3. الهوية والسيادة: جوهر معركة الكرامة :
في الحالة السودانية، الحرب ليست بين جيشين، بل بين صورتين للسودان:
سودان يُراد له أن يكون وطنًا جامعًا متماسكًا، وسودانٍ مُجزّأٍ تُدار شؤونه من الخارج.
ومن ثم، يصبح الدفاع هنا دفاعًا عن الهوية والسيادة بوصفهما المضمون العميق للأمن القومي.
فلا يمكن الحديث عن سلامٍ حقيقيٍ في وطنٍ بلا تعريف جامع لذاته.
4. القوة والحكمة: جدل الواقعية والأخلاق :
الواقعية السياسية لا تعني عبادة القوة، بل إدراك حدودها.
القوة هنا وسيلة لحماية القيمة، لا لاستبدالها.
والمعيار الأخلاقي ليس في رفض الحرب، بل في السبب الذي تُخاض من أجله.حين تكون الحرب دفاعًا عن حياة الناس وهويتهم، تصبح أكثر أخلاقية من سلامٍ يُفرَض بالتهديد والابتزاز.
5. منطق الردع والسلام العادل :
السلام الذي يُبنى على الردع لا يعني الرغبة في الحرب، بل امتلاك القدرة على منعها.
فالعدو لا يتراجع احترامًا للمواعظ، بل خوفًا من الخسارة.
لذلك، فإن بناء السلام يبدأ من بناء الإرادة، لا من توقيع الاتفاقيات.
السلام الحقيقي مشروع وطني يبدأ في العقول قبل أن يُكتب في الأوراق.
6. نحو فلسفة “السلام بشروطنا”:
بهذا المعنى، لا يكون شعار “لا للحرب” تعبيرًا عن حب السلام، بل عن خوفٍ من مواجهة الواجب الوطني.
والبديل هو أن نقول:
” نعم للسلام” ، ولكن بشروطنا.
نعم للسلام الذي نصنعه نحن، لا الذي يُفرض علينا.
فالحرب ليست ضد السلام، بل ضد الاستسلام.
ومن رحم القوة الواعية تولد الحكمة، ومن منطق الصمود ينبثق السلام العادل.
7. الحرب والسلام في فلسفة الأمن القومي السوداني :
لا يمكن قراءة الحرب أو السلام في السودان خارج سياق الأمن القومي الشامل، لأن كليهما ليس مجرد حدث عسكري أو اتفاق سياسي، بل تجليات متناقضة لجوهرٍ واحد: بقاء الدولة ومعنى الوطن.
فحين يختلّ هذا الجوهر، تتبدّل الحرب من فعل سيادي إلى فوضى، ويتحوّل السلام من أمل وطني إلى خدعة خارجية.
إنّ الأمن القومي السوداني لا يُختزل في حماية الحدود أو تأمين الموارد، بل يبدأ من حماية المعنى الجمعي للانتماء؛ أي حماية هوية السودان من التشظي الثقافي والاختراق السياسي والارتهان الاقتصادي.
ومن هنا تصبح الحرب – حين تُفرض – أداة دفاع عن “الذات الوطنية” لا عن “السلطةالحاكمة”، بينما يصبح السلام هدفًا لإعادة بناء الذات الجمعية على أسس الندية والسيادة، لا الخضوع.
فالقوة العسكرية ليست سوى الذراع الظاهرة للأمن القومي، لكن عمقه الحقيقي يكمن في قوة الوعي المجتمعي وقدرته على المقاومة الفكرية والنفسية.
إذ لا يمكن لدولة أن تنتصر في ميدان القتال ما لم تنتصر أولًا في ميدان المعنى، أي في معركة تعريف الوطن والهوية والعدو.
ولهذا، لا بد من إعادة تعريف الأمن القومي السوداني على أنه:
“قدرة الدولة والمجتمع معًا على حماية هويتهما الجامعة، وضمان استقلال قرارهما، وصيانة مواردهما، وتحقيق توازن القوة في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية على السواء.”
بهذا الفهم، تتحول الحرب إلى مرحلة في مشروع الحماية الوطنية، والسلام إلى مرحلة في مشروع البناء الوطني.
فالأمن القومي هو الخيط الذي يربط بين المرحلتين، ويحوّلهما من صراعٍ عابرٍ إلى مسارٍ استراتيجيٍّ لبقاء الدولة ونهوضها.
إنّ السردية الجديدة – “السلام بشروطنا” – ليست دعوة إلى الحرب ولا إلى المساومة، بل هي تعبير عن وعي سيادي جديد يرى أن أمن السودان يبدأ من وعي السودانيين بذواتهم، وأن بناء السلام الحقيقي لن يتم إلا حين تتوحّد إرادة الدولة والمجتمع في مشروعٍ وطنيٍّ جامعٍ يضع الهوية والسيادة في صميم الأمن القومي.
الخاتمة: من ردّ الفعل إلى الوعي السيادي :
لقد آن الأوان لأن نغادر منطق الشعارات إلى فلسفة المواقف.
أن ندرك أن الحرب قد تكون لحظة ضرورية لإنقاذ معنى الوطن، وأن السلام لا يُقاس بغياب السلاح، بل بحضور السيادة.
إننا لا نختار الحرب حبًا فيها، بل لأننا نرفض أن يُفرض علينا سلامٌ يُفرغ الوطن من ذاته.
فحين نُدرك أن الهوية هي السلاح الأول، نكون قد بدأنا الطريق نحو سلامٍ يُصان بالقوة،لا يُبتز بالضعف.
الحرب ضرورة حين تكون الهوية مهددة،
والسلام هدف حين تكون السيادة مصانة،
والأمن القومي هو المسار الذي يربط بينهما ويمنح الوطن معنى الاستمرار.


